أحدث المواضيع

هرطقة الثيوقراط من الجعفري الى البطاط




د. عبد الكاظم العَبــودي
من يستمع إلى ممثلي السلطة الطائفية بكل كياناتهم السياسية من خلال تصريحاتهم وخطبهم يتوصل في الوهلة الأولى إلى أن هناك ثمة خليط عجيب من الخطاب الديني 


المغلف بمصطلحات السياسة والإعلام؛ وهو خطاب عام وان بدى مُرتبكا في الفهم عند الكثيرين؛ لكنه في الحقيقة ينبع من مصدر إرهابي واحد وهو خطاب يمكن نسبه إلى مجموعة الثيوقراط الطائفي من القدامى والجدد المتمثل في اعتماد سياسات الإلغاء والإقصاء والاجتثاث والاستبعاد لكل من يقف خارج صفوفهم في الفكر والسياسة والممارسة، بل تعتمد محصلة هذه الأساليب التجاهل الكامل لكل مكونات الشعب العراقي وقواه الاجتماعية والسياسية.
معركة صلاح الدين والأنبار ونينوى التي يراوح الفيلق الصفوي بكل مكوناته العسكرية وشبه العسكرية والسياسية في مكانها عاجزا عن حسمها تفرز من جديد تحديات ومعطيات هامة أمام الشعب العراقي وقواه الوطنية العابرة للطائفية لفهم ما يجري فعليا عن مُسَببات تطبيق سياسة الأرض المحروقة ومظاهر التمدد الطائفي والمذهبي نحو مناطق أوسع تحت ستار محاربة "داعش" .
يتفق الجميع أن فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، هي الفترة الأكثر دموية وقسوة في تاريخ العراق المعاصر. ولا يتسنى المجال في هذه المقالة السريعة تناول المسببات التاريخية والاجتماعية لجذور الإرهاب المتصاعد في العراق؛ فالأحداث الدموية التي نتابعها، ليست منعزلة أو متفرقة، ولا يمكن إيعازها إلى طرف أو مجموعة أو شخص يقودها؛ بل هي كتلة من التداخلات المحلية والإقليمية.
يرث العراقيون كل هذا المجال من العنف الدموي المحتدم في كافة أرجاء البلاد وهم حيارى ومندهشين أمام الأهوال الجارية؛ ولا شك أن إحدى أهم مسببات انبعاث هذه الموجة الدموية السائدة في العراق هو الاحتلال الأمريكي ويتبعه النفوذ الإيراني الذي ظهر جلياً منذ الساعت الأولى لغزو العراق، ومنذ أن شنت الحرب على العراق لاحتلاله تحت شعار " مكافحة الإرهاب" تارة و " نزع أسلحة الدمار الشامل" تارة أخرى، مستخدمة القوة العسكرية الامبريالية الغاشمة، ومجندة لادواتها التنفيذية، من قوى محلية عراقية واقليمية، قبلت التعاون مع الاحتلال والاستفادة منه لبناء سلطة ثيوقراطية متطرفة، متحاصصة سياسيا، استغلت شكليا المنفذ الديمقراطي الزائف والصندوق الانتخابي المزور لتعزيز مواقعها والهيمنة على السلطات الحاكمة الجديدة في العراق.
وإذا كان بعبع وجود تنظيم القاعدة في العراق ومكافحته ظل يحتل واجهة الصدارة في شعارات المحتلين وايران وأتباعهما؛ الا ان السعي المستمر لخلق "القاعدة" أو أنسالها كـ "داعش" وغيرها من الواجهات الاسلاموية السياسية والمسلحة ظل هدفا رئيسيا تعمل من اجله ومن خلاله المجموعات الطائفية وزعمائها لتبرير حملها السلاح وممارسة القمع السياسي ضد الخصوم في هذا البلد أو ذاك.
لقد كذب وظلل الإعلام الغربي وتابعه العربي عبر سنوات العقد الأخير من سنوات الاحتلال البغيض بعد غزو العراق منذ 2003 عن تقديم الصورة الحقيقية لإفرازات الوضع السياسي والاجتماعي في العراق، وخاصة تحجيم وتجاهل دور المقاومة العراقية ضد الاحتلال. كما تمت التغطية تماما على أعداد الضحايا من القتلى والمعتقلين والنازحين والمستبعدين كليا عن الحياة السياسية والاستقرار الاجتماعي في العراق، في الوقت الذي تمت مباركة أفعال التعسف الطائفي والتكتم على أفعاله المشينة.
حتى هذه اللحظة لا يعرف الناس في بلادنا والعالم: كم من الناس يُقتلون على أكثر من جبهة وساحة ومدينة عراقية؟ وكم من المدن والقرى العراقية دُمرت؟؟ وكم من المدن والمحافظات العراقية الأخرى تنتظر الدمار التام؟؟ بالقصف والهجوم من اجل " التحرير" على يد المليشيات الطائفية المنفلتة عن سلطة الدولة القائمة والانضباط العسكري المفترض لقواتها وجيشها الآيل للتفكك؟
وإذا كان العراقيون قد استوعبوا معظم مفردات الدرس المؤلم والقاسي من اشتعال الحرب الأهلية بلبوسها الطائفي والعنف المقيت؛ فإنهم بجموعهم المنشطرة هنا وهناك، بما فيهم حملة السلاح، يدركون أن ما من قضية طائفية ومناصرة للنفوذ والاحتلال الأجنبي في العراق تستحق كل هذه التضحيات والقتل للناس من أبرياء في العموم، وحتى أؤلئك المُضَّللين والمنخرطين في صفوف مشاريع أصحاب الحماسات الطائفية والاحتراب الدموي عليهم إدراك مدى فداحة وحماقة الاستدراج في تفاصيل هذا المشروع المدمر للعراق شعبا وحضارة وثقافة وتاريخا.
وأمام هذه "الفوضى الخلاقة" في ممارسة القتل يهتز مبدأ رهان التاريخ والقوة عندما تنعدم شروط ومعطيات التحليل لما يجري على ارض العراق.
من بين ركام الخطاب المستهلك تتصدر العمائم البيضاء والسوداء والرمادية لتذكي في الهشيم الاجتماعي محارق من نوع جديد أطلقنا على آخرها " الهولوكوست الصفوي" على ارض العراق.
الحالة الانفعالية لهذا الخطاب تتصدرها العمائم الجالسة خلف ميكروفونات الفتنة الطائفية وهي التي تمارس إرهابا قديما متجددا محرضا على العنف، وعلى واجهة الأحداث تتالى تصريحات قادة ما يسمى " التحالف الوطني " بدءا من إبراهيم الجعفري والمالكي وحيدر العبادي ومرورا بقادة المليشيات عمار الحكيم ومقتدة الصدر وهادي العامري وانتهاء بالخزعلي والبطاط ... كل هؤلاء يتبادلون الأدوار في طرح مثل هذا الخطاب الثيوقراطي المضلل، والمفارقة في كل هؤلاء وهم يتحدثون عن طهارة النفس وعفة اليد والشجب الأخلاقي وضرورة الاتحاد المقدس ضد "داعش" وغيرها والحديث عن الفساد وضرورات الإصلاح والدعوة إلى المصالحة الوطنية بعد أن آلت أوضاع العراق نحو التقسيم والتفكك وفقد السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي.
تحتمي هذه المجموعات بشكل مباشر بإيران؛ في الوقت نفسه ترتمي بانتهازية مكشوفة بالعمل تحت مظلة أعتى دولة امبريالية إرهابية في العالم هي الولايات المتحدة المتحالفة مع الدولة الفارسية في إيران عن طريق التنسيق في أفعال هؤلاء.
ان العالم بدأ يتلمس دور إيران ونشاطها في تسيير منظمات الإرهاب وتوسيعه تناغما وتبادلا في الأدوار المطلوبة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
سأتوقف عند مفردات الخطاب الثيوقراطي السائد في العراق وممارساته الإجرامية كظاهرة إرهابية ظلت تستخدم الدين واجهة لتنفيذ لإقصاء كل الخصوم والمنافسين لها من داخل وخارج العملية السياسية التي يسيرها الاحتلال الأمريكي والنفوذ الإيراني .
وكما استخدمت الولايات المتحدة حادثة انهيار البرجين لشن حملتها الإرهابية على شعوب العالم تحت شعار مكافحة الإرهاب فان القوى الإرهابية الثيوقراطية في العراق عملت بنفسها وبالتنسيق مع فيلق القدس الإيراني على تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء لتشن بحجتها وتجند حملاتها الإرهابية الدموية ضد قطاعات واسعة من أبناء الشعب العراقي لإذكاء حرب طائفية مستمرة ترفع شعارات مرحلية بغرض التعبئة الجماهيرية الطائفية تقودها فتاوى المرجعيات وتوجيهاتها اليومية عبر منابر الجمعة والفضائيات الخاصة المجندة لهذه الأغراض.
الحقن العالمي المتواصل لفيروسات الإرهاب يتناغم داخليا وخارجيا ويستخدم واجهة الإسلام السياسي على طرفي واجهات الصراعات في كل الساحات وقودا لإشعال الحرائق القائمة اليوم في العراق وسوريا واليمن وسائر بلدان المشرق والمغرب العربي.
كل هذا لم يتم دون الدور الفاعل للولايات المتحدة وإيران لإدامة سعير الصراع في كل تلك الساحات انتظارا لتنفيذ المخططات الموضوعة في إتفاق"سايكس بيكو" كمعاهدة أمريكية جديدة منتظرة لتقسيم المنطقة برمتها.
لا نرى خطا فاصلا واضحا بين جبهات صراع قوى الإرهاب الطائفي ــ السياسي، بكل مسمياته لنحدد بدقة قواه الاجتماعية والسياسية ونفرزها قصد الوصول إلى تحديد خصائصها؛ فعلى الجبهتين من الصراع في كل ساحة عربية يستخدم سلاح الموت، أي الانتحار الفردي والجماعي المنظم ضمن هياكل وتنظيمات عسكرية وشبه عسكرية، تقودها المليشيات المتطرفة، ويقف خلفها حفنة من أمراء الحرب وتجارها ممن يستفيدون من صفقات الحرب وما يرافقها من امتيازات مادية وسياسية.
وبغياب الدوافع الوطنية لتحرير الأوطان لا فرق بين " الانتحاريين" أو " الشهداء" الذين يساقون إلى الموت في مشاريع ثيوتكنوقراطية يَجرمون في ممارساتهم العنفية ةالقمعية، وهم الذين نجحوا فعلاً في تأسيس كيانات وكانتونات داخل الدول القائمة على الخريطة الجغرافية السياسية القديمة، وعندما تتم عمليات تفكيك الجيوش الوطنية في أكثر من بلد عربي يُشَّكل أمراء الحرب بمليشياتهم جيوشاً وقطعات مسلحة تعمل خارج قيادات جيوش الدول الرسمية ، ولكل تلك العصابات المنظمة تتوفر مصادر لأموال مسلوبة من ميزانية الدولة باتت لا تحتاج اليوم إلى عمليات التبييض المعتادة ولا تحتاج إلى الإيداع والسحب في البنوك بشكل رسمي لإخفاء مدى قذارة مصادر المال السياسي الذي يلعب أدوارا هامة ورئيسية في التعبئة الاجتماعية لأفراد تلك الكيانات السياسية الطائفية.
مليارات الدولارات من المال العام المسروقة من خزينة الدولة العراقية التي صارت تزود عشرات الألوف من المقاتلين والفضائيين بالمال والرواتب والأسلحة والملاذات والمعسكرات وكأنها منظمات ومؤسسات تمارس دور شركات الحماية الخاصة التي تجند المرتزقة المحليين والأجانب بعناوين ورتب عسكرية عدة لزجهم في هذه الحرب الطائفية القذرة.
لم ينجح هؤلاء في مساعيهم لوضع العراق وسوريا على ما هو الحال عليه من دون خبرات جديدة للعنف وممارساته على كل المستويات، تتجلى في التحكم بوسائط الإرهاب المعلوماتي والإرهاب البيولوجي لتكريس حالة الإرهاب الطائفي والإثني والمذهبي، وكلها خبرات لا شك في مصادرها.
تلك الخبرات التي عرفها العالم عن تنظيم القاعدة لم تخترعها القاعدة من بنات أفكارها، ومن دون اختراق وتسيير ومساعدة مصالح المخابرات العالمية، وخاصة مخابرات الولايات المتحدة، وعلى منوالها جرى خلق المليشيات الطائفية المُسَّيرة عن قرب وعن بعد، من قبل مصالح المخابرات الإيرانية، فكل من الجهتين القاعدة وبعدها "داعش" و المليشيات الطائفية في العراق وسوريا" ماعش" ولبنان واليمن، كلها استخدمت واجهات وأحزاب وحركات الإسلام السياسي وسوَّقَت شعارات معاداة الغرب والامبريالية و الشيطان الأكبر، وما فتئت تلك القوى تعبأ جمهورها بحماسة بمنظور ممارسة العنف والمقاتلة والترهيب في خطاب قلَّ نظيره من قبل على لسان مئات الخطباء من لابسي العمائم، ومن محسوري الرؤوس أيضا، تجمعهما صورة تقليدية تتجلى معالمها في إطلاق صورة اللحية ولبس الجلباب، وعدتها الإعلامية مفردات التحريض على ممارسة العنف وإلصاق التكفير ووسم النعوت المريبة بالآخر، وضد كل من يخالفها فكرا وثقافة وسلوكا أخلاقيا.
إن النزعة المضادة للإنسانية تتجلى في مثل خطاب هؤلاء، والأخطر منه هو طرحها تورية ومغالطة لمشاريع "المصالحة الوطنية" أو "الحوار بين المذاهب" والأديان، في الوقت الذي تجري على قدم وساق عمليات الإجهاض لكل مشروع وطني وقومي وإسلامي وحتى إنساني يدعو إلى مصالحة وطنية حقيقة، لوضع البلاد على سكة التنمية والإصلاح السياسي المطلوب.
وبدلا من فتح أبواب الحوار الوطني يتمسك هؤلاء بالسلطة السياسية والأمنية ومن خلالهما يتم خلق التوترات الاجتماعية والسياسية وبوسائل تفخيخ وتفجير الأماكن الخاصة والعامة بممارسات إجرامية سادية هدفها القتل للأبرياء من جهة لإجهاض العمل والنشاط السياسي ووقف أية مساعي وطنية للخروج من أُتون هذا الجحيم الدموي الذي يتابعه العالم متفرجا وبدهشة غالبا ما تصاحبه حالة من اللامبالاة من لدن المجتمع الدولي الذي بات منقسماً في توجهاته بسبب صراع الإرادات الدولية واصطدام المطامع الاقتصادية والنفوذ والحصول على صفقات التسلح ومضاربات بيع النفط والغاز.
لكل جهة دولية أو إقليمية مصلحة في جوانب من هذا الصراع وإذكائه. وعلى مستوى الاقتصاد العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفائها تعاد هيكلة الاقتصاد والنفوذ من جديد على ضوء توزيع صفقات تسليح الحرب وتعريض البلدان إلى الغزو وإتمام صفقات بيع السلاح وتجنيد وتبادل المرتزقة ضمن ما يسمى ( الحرب على الإرهاب) التي تحتاج في كل الأحوال إلى أدواتها التنفيذية على الأرض بشرا ومقاتلين وحواضن اجتماعية وضمنها تنخرط قوى في صراعات مرتبطة بمصالح تلك الإقتصايات العالمية ودولها المتنفذة في المنطقة.
إن حقوق الفرد والإنسان والمذاهب والطوائف والقوميات باتت شعارات تحمل في عديد من مضامين ممارساتها خديعة مفجعة يستخدمها الخطاب الديني ـ السياسي لتغطية جرائم العنف بكل أشكاله ومراميه.
والأخطر ما في هذا الخطاب انه يمارس ازدواجية ميكافيلية انتقائية في طرح شعاراته المرحلية وخاصة الوعود بقرب انجاز " المصالحة الوطنية" في العراق ولأجلها يتحرك على المستوى الإقليمي الرسمي، إبراهيم الجعفري، كوزير خارجية للسلطة القائمة، يتبعه عمار الحكيم ومقتده الصدر، من خلال برمجة زيارات لهما لدول المنطقة بعدما تم تكبيل وإجهاض كافة أحلام ومشاريع إياد علاوي الذي عين نائبا لرئيس الجمهورية مكلفا بمهمة تحقيق مشروع " المصالحة الوطنية" ، في الوقت الذي عُين إلى يمينه نوري المالكي نائبا لرئيس الجمهورية مكلفا بقيادة ما يسمى " الحشد الشعبي" ومع هادي العامري بإمرة قاسم سليماني يطلقان هجماتهم الطائفية ضد المحافظات المنتفضة لتغيير واقع الوضع الديموغرافي والطائفي في المناطق المنتزعة المسيرة بالقوة من قبل مليشيات الحشد الطائفي التي تمارس إرهابا دموياً بات يقلق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإنسانية.
على كل هؤلاء الكف عن هذه الهرطقات التي باتت تعتبر كفرا بكل المعايير السياسية والأخلاقية والدينية والإنسانية، ولا مجال لهم للعب في الوقت الضائع والمستقطع والأخير من عمر العملية السياسية الاحتلالية .
شكرا لك ولمرورك