ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني
علي بن أبي طالب (ر)
علي بن أبي طالب (ر)
هل تعلم البعث من تجاربه وانتقل لمرحلة اعلى من السلوك الديمقراطي ؟ نعم بالتأكيد فما جرى كان مسلسل كوارث وطنية وقومية وانسانية ومن لا يتعلم منها لا يصلح لاي دور قيادي لان الناس تريد من يتعلم من تجاربه ومن تجارب الاخرين كي يهذب نفسه ويتوقف عن ارتكاب الاخطاء وبالاخص تجنب الخطيئة التي لا تغتفر وهي تكرار نفس الاخطاء ، فلئن كان الناس يتسامحون مع اول خطأ فانهم لا يتسامحون مع تكرار الخطا .
فما الذي تعلمه البعث من التجارب المريرة للعراق والامة العربية ؟ وهل كان تعلمه مقرونا بمؤثرات الحالة العالمية والاقليمية والمحلية ؟
1- البعث زاد تعلما وقناعة بان الاقصاء نهج تدميري للجميع وبالاخص للعراق والامة العربية لهذا فان المصالحات الوطنية اساس استقرار العراق وحماية شعبه وكان التسامح هو السمة الاساسية للنظام البعثي عندما يظهر طرف ما استعدادا لاعادة النظر ، وربما يكون افضل مثال هو طلب السيد مسعود البارزاني في التسعينيات عندما كانت منطقة الحكم الذاتي منفصلة عن العراق وتحت مظلة امريكا وتحسب ضمن ما كان يسمى المعارضة التي تحارب العراق تدخل الجيش لانقاذه هو وحزبه من هجوم ناجح شنه جلال الطالباني عليه مدعوما بقوات ايرانية واحتل اربيل مقر السيد مسعود ، لكن الرئيس الشهيد صدام حسين وضع خلف ظهره كل ما حصل من مواقف عدائية خطيرة وعمليات قتل وانفصال فعلي عن الدولة المركزية منذ عام 1991 وارسل قطعة عسكرية صغيرة في عام 1996 حسمت الامر وطردت جلال والايرانيين وسلمت اربيل مجددا للسيد مسعود وانسحبت .
وتلك الخطوة تكتسب اهمية كبيرة في دلالاتها اذا اخذنا بنظر الاعتبار حقيقتين مهمتين جدا : الحقيقة الاولى ان ما سمي بمناطق الحظر الجوي كانت تمنع القوات العراقية من دخول شمال العراق ولهذا فان استجابة النظام الوطني لاستغاثة السيد مسعود كانت خطوة خطيرة جدا وكان يمكن ان تؤدي الى استئناف الحرب بصورتها السابقة مع امريكا وحلفاءها ، ولكن الاقدام عليها كان ضرورة من ضرورات اعادة بناء الثقة بين ابناء العراق وتأكيد حرص القيادة الوطنية على حماية كل العراقيين مهما بلغت الخلافات معهم من شدة وخطورة .
والحقيقة الثانية انه كان بامكان الجيش البقاء وتحرير كافة مناطق الشمال واعادتها الى سلطة الدولة المركزية بعد طرد قوات جلال والايرانيين لكن الرئيس الشهيد كان بعيد النظر مؤمنا بان وحدة العراق لا تتحقق بالقوة فقط بل بالتفاهم والحوار والقبول المتبادل ورفض الاقصاء بكافة اشكاله .
وللتاريخ فقط نذكّر بان الاف العسكريين العراقيين ورجال الامن واعضاء البعث قد قتلوا على يد البيشمركة الكردية في السنوات السابقة لطلب السيد مسعود التدخل . وهذا من اكبر مظاهر التسامح والحرص على حل المشاكل وديا .
2- من مظاهر تعلم البعث من تجاربه وتجارب غيره انه انتقل من مبدأ الحزب القائد –وليس الحزب الواحد كما يروج - الى مبدأ المشاركة في الحكم او الحكم بعد الفوز في الانتخابات وليس بالانقلابات ، فحالة العراق والامة كلها وتعرضها لكوارث الصراعات الاقصائية فرض تغيير اساليب العمل وطرق التفكير ايضا ، ولهذا فان اول شروط احباط المخططات المعادية هو شرط اقامة علاقات ود وثقة مع كافة الاطراف الاخرى وتصفية الخصومات بتقديم تنازلات متبادلة من اجل العراق واعتماد الخيار الديمقراطي كوسيلة هي الافضل لادامة الوحدة الوطنية .
وفي هذا الاطار ولترجمة تلك القناعة فان النظام الوطني اعد قوانين جديدة لتبنيها وتحقيق المزيد من الانفتاح ومنها قانون لحرية الاعلام يسمح بالتعددية الاعلامية والاعلام الخاص ، وقانون التعددية الحزبية وفيه يمكن انشاء الاحزاب وقيامها بعملها بحرية . وتمت مناقشة هذه القوانين في نهاية الثمانينيات لكن ما عرقل تطبيقها وتبنيها كانت حرب العدوان الثلاثيني (1991) بعد افتعال ازمة الكويت.
المهم هنا هو تطور ثقافة التعددية السياسية والحزبية وتبلورها داخل صفوف طليعة بعثية متقدمة واختراقها لتقاليد المجتمع الاستبدادية وسيطرتها على نزعات الانتقام والتحزب .
وكانت مواقف الحزب بعد الغزو تعبيرات تترى واحدة بعد الاخرى عن هذه الانتقالة النوعية في الوعي فقد كانت اول ستراتيجية تبناها وهي ستراتيجية البعث والمقاومة والتي اعلنت في ايلول من عام 2003 تدعوا لعراق تعددي وديمقراطي يتم فيه الحكم بواسطة الانتخابات وليس الانقلابات وتكرر ذلك في برنامج التحرير والاستقلال الذي اعلن في عام 2006 .
3- رغم اننا تعرضنا للمجزرة الاكبر وهي استشهاد اكثر من 160 الف بعثي بعد الغزو ، وهذا العدد الضخم من الشهداء والذي يعادل اكثر من مجموع كافة الاحزاب في العراق وربما يكون شهداء البعث عدديا اكبر من اي حزب في كل الاقطار العربية ، وكانت الابادة للبعثيين بهذه الطريقة والاجتثاث الفاشي لهم كافية لتحقيق رد فعل انتقامي او ثأري ممن تسبب في ابادة هذا العدد الضخم من البعثيين لكن البعث اصر على ضبط النفس ومنع ردود الفعل السلبية من التأثير على مصلحة العراق والامة العربية وواصل الدعوة لحلول سلمية لكوارث العراق بشرط ان تضمن هوية العراق ومصالحه وحقوقه كاملة وبلا تفريط .
فهل يوجد دليل افضل من هذا الانتقال في الوعي نوعيا تعبيرا عن التعلم من التجارب ؟ وهل حصل نفس التحول النوعي في الوعي الحزبي داخل صفوف اغلب الاطراف الاخرى والتي مازالت اسيرة الاحقاد والثأرات ونزعات الاقصاء رغم كل كوارثنا ؟
4- ان وجود المجلس الوطني المنتخب وهو البرلمان مع وجود مجلس قيادة الثورة وهي هيئة معينة من القادة كان بالاصل مرحلة انتقالية بين عهدين مختلفين وكان يجب حسب خطة البعث اعداد العراق شعبيا لمرحلة اخرى تلغى فيها الهيئة المعينة وتحل محلها هيئة منتخبة بالكامل وهي البرلمان ، او ان الهيئة المعينة ( مجلس حكماء او شيوخ ) هي للمساعدة في الخبرة والتجارب للهيئة المنتخبة والتي قد يكون اعضاءها بخبرات قليلة ، ولكن مسلسل الحروب التي فرضت على العراق منذ وصل خميني بشكل خاص عرقل تطبيق ذلك .
وهنا تظهر القدرة الهائلة للمؤثرات الخارجية على القرارات الداخلية الصحيحة فبالرغم من اتخاد قرار اقامة مجلس وطني منتخب الا ان ما واجهه العراق من تأمر متنوع المصادر داخلي وخارجي ، بل وصل التأمر الى حد تحريك عناصر حزبية داخل البعث لاسقاط قيادته ، كل ذلك جعل صعبا جدا تحقيق الصيغة الديمقراطية الواسعة . لقد كانت القيادة العراقية واقعة بين نارين : نار الضغط الخارجي والداخلي ونار الرغبة القوية والمتجذرة في الانتقال الى مرحلة العمل الاكثر ديمقراطية وتمثيلا للشعب .
5- ومن ايجابيات البعث انه ورغم قيامه بالتغيير بمفرده باسقط النظام السابق فانه اصر على اشراك الاخرين في الحكم ولو بدور اقل من دوره ، وهذا امر طبيعي فليس منطقيا ولا عمليا ان تستلم الحكم بتضحياتك ثم تقدمه لغيرك بمساواة تامة تهدد باستيلاء الاخرين على الحكم واقصاءك كما حصل للبعث في عام 1963. ويجب ان لاننسى ان البعث حكم في مرحلة كانت فيها نزعة الاقصاء والتأمر ورفض قبول الاخر سائدة ولم تكن توجد مؤسسات دستورية حاكمة وملزمة كما هو حال امريكا والاتحاد الاوربي مثلا والتي تمنع استخدام التأمر لاقصاء نظام ما . ولهذا فان مشاركة الاخرين كانت مشروطة بدور قيادي للبعث وانفراده بالامساك باجهزة الحسم وهي القوات المسلحة والاجهزة الامنية وما عداها كان مفتوحا للاحزاب الاخرى وكان للحزب الشيوعي مثلا وزراء ومجلة نظرية وجريدة يومية ومقر وعمل جماهيري حر ودعاية ....الخ ، وتلك خطوة على الطريق الصحيح في بيئة لم تتغيير بعد مؤثراتها التقاليدية ولا النفسية .
ونذكّر للتاريخ بان كل الانظمة قبل البعث وبعده مارست نفس الحق سواء كانت منتخبة او انقلابية ، فهل من الانصاف مهاجمة البعث لانه كان منفردا بالحكم دون ملاحظة الحالة العامة السائدة ؟
6- ثمة مشكلة عملية تنتج عن الممارسة الفعلية للحكم وتكون مناقضة في تعبيراتها لما تعهدت به الاحزاب قبل استلامها للحكم – وهذه قاعدة تشمل كافة الدول وان كانت بدرجة اقل في الدول ذات المؤسسات الدستورية - وهي ان خوض الصراع حول السلطة بكل ما فيه من عناصر تحد ومخاطر تفرض مواقف كانت غير ممكنة التبني قبله ، وكلما تعقد الصراع وزاد خطورة تزايدت النظرة التقييمية المتعالية على الواقع لدى الناقد الذي لا يمارس الصراع فعلا، وبالطبع فانها خاطئة لانها لا تلامس الواقع. وهذه احدى اهم مشاكل العمل الوطني العربي عموما والتي تجعل مثقفا او مراقبا يصدر احكاما بناء على حالته الطبيعية كمراقب لا يخوض الصراع فعلا ، في حين انه يقيّم صراعا معقدا جدا ولا يمكن فهمه الا بممارسة الصراع ذاته والانغماس في مؤثراته ومعاناة ميكانزم عمله ، وهنا تكمن الفجوة في الفهم بين من يعمل ومن ينظّر . وهذه الظاهرة هي التي تجعل تقييم الخطأ والصواب معرضا لعدم الدقة بسبب الغربة عن الصراع الواقعي . يتبع . Almukhtar44@gmail.com
19-8-2015
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء