أحدث المواضيع

هل تغيرت وسائل تحقيق الثورتين الاجتماعية والتحررية 7 ــ صلاح المختار


يتعب الإنسان أكثر ما يتعب وهو واقف في مكانه
حكمة عالمية
مفهوم (اقتصاد السوق الاشتراكي)
ثمة تساؤل مركب حاسم ومصيري يجب ان نجيب عليه بوضوح تام وهو : هل بالامكان بناء الاشتراكية القومية او اي نظام سياسي مرغوب في ظل التنفيذ الفعلي والاوسع نطاقا لاخطر مخطط يواجه الامة العربية في كل تاريخها وهو مخطط تقسيم الاقطار العربية على اسس طائفية وعنصرية ، والذي نرى الان نتائجه الكارثية الفعلية وغير المسبوقة ابدا في العراق وسوريا وليبيا واليمن بشكل خاص وهي مقدمات لكوارث اشد هولا تنتظر هذه الاقطار وبقية الاقطار العربية التي تعد المحارق الكبرى ؟ وهل بالامكان التقدم خطوة واحدة الى امام دون تبني ستراتجية قومية نضالية مشتركة متعددة الخصائص مختلفة جذريا عما سبقها تجمع القوى العربية المعرضة للتهديد الوجودي في اطار جبهة او جبهات عريضة تناضل من اجل اول واهم شروط اي بناء اجتماعي او سياسي او اقتصادي وهو شرط ضمان البقاء في الوجود حيث لا وجود للتحرر ولا للديمقراطية ولا للاستقلال بدون ضمان الوجود المادي للانسان العربي ؟
البديهية الاولى في الحياة بكافة اشكلها الانسانية والحيوانية والنباتية تقول بأن كل مخلوق وليس الانسان فقط (يجب ان يحافظ اولا على وجوده كي يحسن وضعه ) من هذه البديهية انطلقت كافة الامم قديما وحديثا لمواجهة التحديات المصيرية والوجودية وترفعت عن النظرة الجامدة والقاصرة التي ترى الماضي واساليبه وضوابط عمله ، لكن بعض النخب العربية وهي ترى الحاضر تعجر عن الابداع والابتكار وتقع اسيرة دوغمائيات تصلح للمتاحف ولا تفيد في الحياة الواقعية . ولهذا فمن نجح هو الذي تمكن من الحفاظ على وجوده اولا ثم انطلق بعدها لبناء ماهو غير وجودي - كالنظام السياسي والاقتصادي – وضع اسسه فوق قاعدة الامان للفرد وضمان البقاء للدولة والمجتمع وتقدم خطوات مدروسة للوصول التدريجي للاهداف الاصلية كاملة وان كان بصورة مختلفة عما طرحه الاجداد .
لعل ابرز مثال لدينا يمكن دراسته لتحقيق فائدة توسيع نطاق الخيارات ومعرفة الامكانيات العملية هو المثال الصيني الذي يشكل اهم قواعد التفكير بمخارج ناجحة من ازمات قاتلة ومعقدة جدا ، فالصين ذات المليار وربع المليار نسمة وذات النظام الذي كان متشددا في ماركسيته تجاه الميوعة السوفيتية وهو ما رأيناه في الخلافات التي نشبت بين ماو تسي تونغ قائد الصين وبين ستالين قائد الاتحاد السوفيتي وبانية الفعلي ، حيث ان ماو رفض الانموذج السوفيتي للماركسية وبنى انموذجه الخاص للاشتراكية معتمدا على تحالف العمال والفلاحين كأساس للنظام وليس الطبقة العاملة كما فعل ستالين ،
وهنا نلاحظ اول خطوات الصين الشيوعية على طريق الاستقلال والانفتاح على كل الخيارات الممكنة وهي تنفيذ شعار ماو ( دع الف زهرة وزهرة تتفتح ) اي لا تستبعدوا اي خيار يمكن ان يخدم الاشتراكية في بلد واحد ، مبتعدا عن دوغمائيات ستالين المدمرة والتي وان بنت اعظم دولة شيوعية الا انها كانت بنفس الوقت اللغم الذي زرع في قلبها . ولاجل تجاوز ازمة التناقض بين الخيارات واجهت الصين اضطرابات خطيرة كلفت الكثير كي تستقر على خيار ناجح عمليا ويصلح في عالم اكثر تعقيدا من عالم نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، فقد واجهت الصين الثورة الثقافية التي عصفت بالصين وتنوعت التناقضات الى ان انتصر خيار جديد مبدع يجسد قدرة الانسان على تبني الحلول الناجحة عندما يواجه ازمات بالغة التعقيد والخطورة .
لقد توصل خلفاء ماو الى نظام جديد ينسجم مع قواعد العمل في عالم متناقض وفيه اعداء كثر وخطرين لاي نظام عادل اجتماعيا وفي مقدمتهم امريكا ، هنا فرض التساؤل التالي : كيف يوفر النظام الشيوعي الصيني الذي كان يواجه ازمة الافتقار الى الموارد المالية الضرورية لتمويل مشاريعه العملاقة وهو المعرض لتأمر دولي منظم من قبل من يملك المال المطلوب وهو العدو الاخطر :امريكا ؟
اتبعت الصين خطة الانفتاح على الغرب بطريقة مخططة ومدروسة ومشروطة فدعت الاستثمارات الغربية لدخول الصين لاجل ضمان نهضة مدنية ضخمة ، وكانت شنغهاي مثالا لتلك الخطة العملاقة ، فقد تزاحمت الاستثمارات الغربية وفي مقدمتها الامريكية للمشاركة في عمليات الاستثمار في الصين من اقامة شراكات صينية غربية في بناء مناطق صناعية كاملة الى اقامة مدن وتأسيس بنية تحتية حديثة تصلح للتبادل التجاري العالمي فادى ذلك الى تحول شنغهاي خلال فترة قصيرة الى واحدة من اهم المراكز الحديثة للتجارة العالمية وارتفعت بسرعة ناطحات السحاب لتشير الى الارتفاع الهائل للاستثمار الاجنبي في الصين . بدون الانبطاح للاستثمارات الغربية وبدون التنازل عن الاشتراكية - كما فعل عرب تحت غطاء الاصلاح -تجاوزت الصين بهذه الخطوة الجبارة ازمة الافتقار لتمويل مشاريع بناء اهم مقدمات التقدم الصناعي الحديث وهي انشاء بنية تحتية عصرية تدعم صناعة العصر الحديث وزراعة حديثة ولكن بأيد رأسمالية امريكية ويابانية واوربية كان لها مصلحة في استثمار في الصين .
زرت الصين بدعوة منها بصفتي رئيس منظمة الصداقة والسلم والتضامن العراقية في عام 1997 ورأيت شنغهاي وذهلت لتقدمها على نيويورك - التي عشت فيها اكثر من اربعة اعوام - في العمران والنظافة النظام ، ولكن ، وهنا الحكمة الصينية الناجحة تفرض نفسها ، كان بناء الرأسمالية في الصين محكوما بنظام جديد ابتكره قادة الصين الشيوعية اعتمد على مفهوم مبتكر اسمه ( اقتصاد السوق الاشتراكي) ، فما هو هذا المفهوم الذي كان وراء الصعود الصاروخي للصين صناعيا وتكنولوجيا وتحولها لاحقا الى اهم اقتصاد عالمي بعد امريكا ومكنها من تجاوز مشكلة تناقض الخيارات ؟
هناك مفهوم رأسمالي اسمه (اقتصاد السوق) وهو من اهم مفاهيم النظام الرأسمالي الاوربي والامريكي وهو ينطلق من قاعدة معروفة تقول (دعه يمر دعه يعمل ) أساسه هو اطلاق الحرية للتجارة والعمل الاقتصادي وترك السوق يحفر مجراه وليس تدخل الدولة لان الاخيرة ليست سوى شرطي يحمي التجارة والتجار وينظم عملهم . انه أصل الرأسمالية وهو مصدر الليبرالية والمفاهيم السياسية الغربية المعروفة ، رغم ان سنوات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي قد شهدت تعاظم دور الدولة الرأسمالية بحيث لم تعد الشرطي الذي يكتفي بحماية التجارة بل صارت اداة استعباد العالم كله والدفع لقيام دولة بوليسية تتدخل في كل شيء . وهذا المفهوم مفهوم رفضه ماركس وانجلز مؤسسا الشيوعية وبنيت الاشتراكية على قاعدة الاقتصاد المخطط .
الحزب الشيوعي الصيني ومن منطلق شعار ماو ( دع الف زهرة وزهرة تتفتح ) اختار الجمع بين مفهومين متناقضين كان محرما الجمع بينهما وهما اقتصاد السوق وهو مفهوم راسمالي والاقتصاد المخطط وهو مفهوم اشتراكي ، لقد هجنت الشيوعية الصينية كلا المفهومين وولد مفهوم (اقتصاد السوق الاشتراكي) والذي ادى الى اطلاق التنافس بين الصينيين انفسهم والسماح بالاستثمارات الاجنبية من اجل بناء القاعدة الاساسية لانطلاق صناعات حديثة عملاقة عبر جذب الاستثمارات الاجنبية واستخدامها لبناء تلك القاعدة مادامت الصين عاجزة عن توفير التمويل المطلوب لبناءها .
ولكن الاستثمار يخضع لضوابط صارمة ومنها انه محكوم بزمن محدد وشروط واضحة فيسمح للشركات الاجنبية بتطوير البنية التحتية وغيرها ولكن بعد فترة تصبح كافة البنيان والمشاريع ملكية صينية خالصة . وقد زرت بناية عملاقة في شنغهاي يضم كل طابق منها معارض مختلفة وهذه العمارة وبكل مافيها ستؤول ملكيتها للصين بعد استثمار محدد بربع قرن . اي انك تبني لي ما احتاجه ولكنك تتركه لي بعد انتهاء مدة العقد . هنا نرى العبقرية الصينية واضحة والتي تجاوزت عقدة التناقض بين نظامين وقدمت لنا تجرية تستحق الدراسة والاستفادة منها عمليا . الان لم تعد شنغهاي وحدها الانموذج الرائع للتقدم الصيني بل تحولت الصين كلها الى نماذج للتطور الهائل بفضل تلك الحلول العبقرية .
اما المفهوم الثاني الذي ابتكرته الصين الشيوعية فاسمه ( دولة واحدة بنظامين ) وهو الذي يهمنا اكثر من سابقه نحن العرب الذين تعرضنا بسبب الصراعات بين النظم الجمهورية والملكية لكوارث مهدت للكوارث الحالية لانها انتجت صراعاتنا الدموية كعرب بين معسكرين احدهما يرى ان الاشتراكية تفرض اسقاط الانظمة غير الاشتراكية واعتماد العنف الثوري وسيلة لتحقيق ذلك ، مقابل معسكر يرى في الاشتراكية بكافة اشكالها شيوعية متخفية يجب القضاء عليها بتسخير المال العربي من اجل ذلك وبالاعتماد على القوى الخارجية ايضا .
وهذا التناقض ادى الى عداءات عميقة وحروب مباشرة او بالواسطة بين العرب وهي التي ادت الى خسارتهم جميعا واستنزفت مالهم وشبابهم وخياراتهم ومهدت الطريق لتعميق التغلغل الصهيو-امريكي- ايراني داخل صفوفنا ، وهنا نرى ان اساليب كلا الطرفين عملت وتعمل على تهديم اي خيار للتفاهم او التقارب بين المعسكرين من اجل انقاذ الامة كلها وايقاف التغلغل الاستعماري والصهيوني والاقليمي واستثماره الكامل والناجح للصراع بين المعسكرين العربيين .
ويمكن الجزم بان احد اهم الاسباب الرئيسة لكوارث العرب الحالية كان ذلك التناقض العدائي بين شكلين من الانظمة والذي مازالت اثاره وتأثيراته المدمرة تطحننا حتى ونحن نواجه الابادة العملية لملايين العرب والتغييرات القسرية للهوية العربية واحلال هويات اجنبية فارسية او صهيونية محلها ، وهو ما يجعل وجود العرب كلهم ودون اي استثناء موضع تهديد مباشر لدرجة اننا وبعد كانت لدينا فلسطين واحدة اصبحت لدينا فلسطينات عراقية وسورية ويمنية وليبية وتستعد الامة لمواجهة فلسطينات اخرى في السعودية ولبنان ومصر والجزائر وتونس والمغرب والسودان ودول الخليج العربي كلها !
الصين لانها تعرف نتائج استخدام الحرب ضد من استعمر اجزاء منها واهمها استنزاف مواردها المخصصة لتطويرها فتصبح خسائر تحرير تلك الاجزاء اكثر من الفوائد ، قررت استخدام الدبلوماسية مقرونة بشرطي امتلاك القوة الهائلة عسكريا والانتظار الطويل لاعادة تلك الاجزاء ، ولطمأنة حكام وشعب الاجزاء المحتلة المحكومة بنظام رأسمالي ناجح كانت الصين ترفضه طرحت مفهوما مذهلا وهو (دولة واحدة بنظامين ) تجاوزت به عقدة التناقض الحاد بين الصينيين انفسهم كالذي كان بين الصين الاشتراكية وجزيرة مكاو الرأسمالية والتي كانت مستعمرة برتغالية واعيدت في عام 1999. وهونك كونج التي كانت مستعمرة بريطانية حتى اعادتها في عام 1997 وهي ايضا اقليم رأسمالي سياحي ، وتم اعادتهما بشرط احتفاظهما بالرأسمالية ولكن تحت السيادة الصينية . ومهدت بهذه الخطوات لاستعادة تايوان لاحقا وفقا لنفس المفهوم ، وهكذا حققت الصين انتصارا هائلا دون حرب .
لو اننا نجحنا في ايجاد نظام اقليمي عربي يقوم على المفهوم الصيني (دولة واحدة بنظامين)هل كنا سننغمس في الاحقاد والثأرات العربية التي صارت اكثر خطورة من التدخل الاستعماري والصهيوني والايراني ؟ ولو ان اخوتنا في الخليج العربي استمعوا لنصائح الرئيس صدام حسين لهم في الثمانينيات هل كان ضعف العرب سيصل لما وصل اليه ؟ اذن دعونا نناقش هذا المفهوم وهل يصلج لحل التناقضات بين الانظمة العربية ويكون قارب انقاذ لكل العرب من الهولوكوستات التي نراها في العراق وسوريا واليمن وليبيا والاخرى التي تطبخ على نار هادئة في مصر وتونس والسودان وكافة الاقطار العربية ؟ وما هي نصائح الرئيس صدام لدول الخليج العربي ؟ يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

1-6-2016
شكرا لك ولمرورك