هل استوعب العرب الإصرار على تغييب صدام حسين
( عن صدّام حسين، نكتب مجددا ودوما، بمناسبة ذكرى ميلاده 81 )
نٌشر على أربع حلقات ضمن احتفاليّات نيسان التي أقامتها نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام طيلة شهر نيسان - أبريل 2018
قبل كل شيء، ومرة أخرى، فإننا نخص شهيد الحج الأكبر صدام حسين بالكتابة له وعنه وفيه كلما اقتضت الضرورة، ونعاود التأكيد والتشديد على أنه لا علاقة لذلك بما قد نرمى به من تهم على غرار تقديس الأشخاص، أو الإيغال في التزمت والانغلاق والتقوقع ورفض المراجعات وغير ذلك من تهم لاكها المناوئون سواء من مبغضي الرجل أو من مدعي الانتصار له.
إننا نعيش هذه الأيام، على وقع حلول الذكرى الحادية والثمانين لميلاد شهيد البعث والعراق والأمة العربية صدام حسين، بكل ما أثاره الرجل من جلبة مناضلا ثائرا وقياديا بعثيا ورجل دولة في مناصب مختلفة ثم مقاوما مكافحا فأسيرا فشهيدا، وبكل ما أساله من حبر فتقاذفته شتى ألوان الاتهامات حينا وفندتها مدايات أقلام وظهور حقائق أحيانا أخرى.
لقد ولد ونشا وترعرع صدام حسين في بيئة عربية متواضعة، وفي أوضاع عائلية يشوبها عدم الاستقرار بالنظر لوفاة والده صغيرا فعانى اليتم مبكرا، وقاسى الحرمان بألوانه، وتعقدت وضعيته بزواج أمه، ما اضطره لتحمل مسؤوليته بنفسه بالرغم من صغر سنه.
اختار صدام حسين في تلك المرحلة على دقتها وصعوبتها، أن يتحدى عاديات الزمن وأن يتجاوز محن اليتم والفاقة والفقر والخصاصة، فلم يستسلم للمعوقات التي كانت تمنع التحاقه بالمدرسة، ولم يحفل لبعد المسافة ولا لقلة ذات اليد، وكان تصميمه على الإقبال على طلب العلم أكبر مما سواه، وهو ما دفعه لأن يجوب أرجاء القرية أوقات فراغه وأيام الآحاد والعطل، للكسب وتوفير مستلزمات الدراسة، فكان يبيع السجائر طورا ويمتهن مهنا فيها من المشقة ما فيها مقارنة بعمره، بل ويروي من عرفوه وعايشوه وقتها سواء من أترابه أو من الجيران والأهل، أنه ما كان ليعيقه عن الحركة عائق سواء كان مناخيا أو ماديا، إذ كان ينتعل أحذية بالية في الغالب بل وكان يقضي ساعات طوالا حافيا، لكن تصميمه على التعلم كان أكبر من كل ما سواه.
وفي الحقيقة، لم تكن هذه أهم معالم صعوبة طفولته ونشأته الأولى، بل لعل أهم ما طبع تلك المرحلة من حياته طبيعة والدته رحمها الله، والتي كانت ضنينة في مشاعرها، كدأب أمهاتنا خصوصا في القرى والأرياف، حيث لم تكن تكشف عن حبها ولا تفصح عن مشاعرها إلا نادرا، بل كانت تميل للتظاهر بالقسوة حتى يزداد ابنها تصميما على التعويل على نفسه، ويشتد عوده وتصلب إرادته وتصقل شخصيته ويشب على تحمل المسؤولية وحسن التصرف ويتدرب على مجابهة صروف الدهر ومقارعة نوائب الزمن وعادياته.
ولقد طبعت هذه النشأة بكل ما أحاط بها شخصية صدام حسين ونحتتها ونمّت مواهبه فيما بعد، واستطاع بالتالي شق درب الحياة بتصميم عالي على معانقة النجاح والتميز، واكتسب خبرة في تجاوز العوائق وتذليل المشاق وتخطي الأزمات، كما كانت مطامحه جبارة وتطلعاته عظيمة متلازمة مع ظروف نشأته تلك، وكان عزمه على تغيير حياته وحياة الآخرين كبيرا، فلم يكن راضيا على نمط حياته وحياة محيطه ولا شعبه، وهو ما دفعه دوما للتفكير في إيجاد السبل الكفيلة بالتطوير والتغيير والتثوير، ذلك أنه لم يكن من أولئك المتماهين مع الواقع المستسلمين له ولإكراهاته وجوره وغياب العدل فيه، كما لم يكن من الذين يقنعون بما يفرضه الحكام واستبدادهم وتعاليهم عن استحقاقات الجماهير وانتظاراتها واستخفافهم بمصالحها ولا بملفاتها الحارقة ولا بحقوقها في الحياة الكريمة بعيدا عن الوصاية والإكراه والتسلط واستغلال النفوذ وغير ذلك.
ولقد وجد صدام حسين في حزب البعث العربي الاشتراكي ذلك الإطار الذي يستجيب ويتوافق مع رؤاه ومواقفه ومبادئه، ويستوعب طبيعته وشخصيته بمواصفاتها التي ذكرنا أهمها أعلاه.
ولهذا فلقد انضم يافعا وبلا تردد لصفوف هذا الحزب لتبدأ مرحلتان مهمتان سواء في حياة صدام حسين شخصيا أو في مسيرة الحزب ككل.
لم يكن انتساب صدام حسين لحزب البعث العربي الاشتراكي حدثا عاديا لا بالنسبة إليه ولا إلى الحزب، بل إنه سيكون له ما بعده، وستفتح صفحة جديدة ثلاثية الأبعاد ثم لتكتسب بعدا رابعا فيما بعد، وهذه الأبعاد الثلاثة هي البعد الشخصي لصدام حسين والبعد النضالي والإضافة الفكرية والوجه السياسي لجزب البعث ثم البعد النضالي على مستوى الفعل العربي القومي أي بما يعني تأثير صدام حسين في أداء الأمة ككل، ليكون البعد الرابع بطبيعة الحال هو البعد الدولي أو الأممي وهو ما سنتناوله بالتحليل لاحقا في آخر هذه المقال.
فمن نافلة القول إذن، إن صدام حسين قد وجد في حزب البعث بفكره وخطه النضالي ومنهاجه الاستراتيجي العام وبطابعه الرسالي وعقيدته التنظيمية الحديدية ورهاناته ومهامه التي فرضها على نفسه بنفسه وبانقلابيته وثوريته وعلمانيته - دون معارضة الدين أو محاربته ولا التصادم معه على شاكلة الأحزاب الماركسية العربية أو المتاجرة به وتوظيفه توظيفا سياسيا مبتذلا لخداع الناس وابتزازهم ومنعهم عن الفعل والإنجاز ببث روح الاستسلام والتواكل والرضى وملاحقة الغيبيات كدأب الحركات القائمة على الدين ذات التوجهات والسياسات الرجعية – وبسعيه الدؤوب وحزمه وعزمه الصارم على تثوير الجماهير العربية والرقي بها لما تتطلبه مهمة تحرير الأرض وطرد الاستعمار ومحاربة الغزاة والطغاة وناهبي ثروات الأمة من متطلبات ومواصفات وشروط وبنهجه المقاوم مقاومة شاملة مركبة تغطي الصعد الفكرية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، ظالته ومبتغاه بما يتوافق مع طبيعتة ومواصفاته وبنيته الشخصية التي أسلفنا الإشارة إليها أعلاه.
فلقد كان التوافق كبيرا إلى حد بعيد بين ما انبنت عليه شخصية صدام حسين وطباعه وصفاته، فاستوعب الحزب هذا الشاب اليافع استيعابا أمثل، بل إنه كان باعتبار عقيدته وبنيته الثورية العقائدية في حاجة لتطعيم صفوفه بمثل هذه العينة المثلى من الشباب الذين تتوفر فيهم صفات البعثي وشروط بناء المناضل البعثي في أسمى تجلياته، حيث كانت عملية الكسب في حزب البعث العربي الاشتراكي عملية شديدة الدقة ومهمة بالغة التعقيد، ذلك أن الحزب ونظرا لطبيعته وتوجهاته ومهامه الثورية الرسالية الانقلابية وخططه التحررية القومية والإنسانية، ولما يحيق به من أخطار محدقة تتربص به من كل صوب وحدب، لا يمكنه فتح أبوابه لكل من رغب في الانضمام إليه دونما تحري أو تمحيص أو تدقيق بشأنه، وكان الملتحقون الجدد به يخضعون لاختبارات ودورات تكوينية شديدة العناية ناهيك عن المراقبة المستمرة والمتابعة اللصيقة والعناية البالغة حتى يأمن الحزب على نفسه ويؤمن صفوفه وتنظيماته من جهة، وحتى يصقل مواهب المنتمين ويرتقي بهم رقيا شاملا فيتأهلوا باستحقاق للطلائع الثورية القادرة على رفع لواء الحزب وإعلاء رايته وإعطاء الصورة المثلى عنه ما يكسبه سمعة حسنة ويجلب احترام الجماهير له وثقتها به، ولكي يكونوا أيضا على أهبة الاستعداد للدفاع عنه بوجه الأعداء سواء من خلال تشويهاتهم المغرضة أو في فترات الاعتداء المباشر.
وعليه، فلقد لامس حزب البعث في صدام حسين بملكاته الفكرية وذكائه الوقاد الخارق وبشجاعته وهمته وسخائه وإرادته الصلبة وشكيمته القوية وعزائمه الحديدية وبفراسته ونباهته وخاصة أصالته واستعداده الخرافي المبدئي لإعلاء راية العرب جميعا وتحقيق آمال الجماهير سواء في العراق أو في كل الوطن العربي في تغيير واقعها المتردي الذي تعاني فيه آفات مركبة بدورها بدءا بطغمة الحكام الرجعيين المستبدين وصولا للاستعمار والصهيونية ومن تذيلهم من القوى الإقليمية وبأطماعهم ومخططاتهم المهددة لمصالحها الاستراتيجية، مناضلا واعدا مبشرا بإضافة نوعية وبحقبة نضالية يسهم فيها بتصعيد النضال وتمتين الفعل البعثي.
فصدام حسين كان من تلك الطينة التي تستجيب لشروط المناضل البعثي العقائدي المستعد للتضحية في سبيل فكره وحزبه وقضايا أمته بالغالي والنفيس، ولا يقعده عنها أمر ولا يحول بينه وبينها حاجز مهما كان، كما كان ذا ملكات فكرية واسعة، وهو ما يجعل من منسوب استيعابه لفكر البعث وفلسفته عاليا جدا، بل لا يتوقف عند حدود الاستيعاب أو الإدراك، بل لهم من القدرة والإمكانيات ما يحدث بأنه سيكون فعلا أحد المبدعين في هذا المجال.
ولعل من أبرز ما يمكن اعتبار صدام حسين مكسبا للحزب وهو في بداية انتسابه وانضمامه بصفوفه، أنه كان شجاعا بلا تهور، مقداما لكن دون أن يتخلى عن التروي والحساب، مغامرا بلا مقامرة، مندفعا متحمسا دون أن تأخذه الحماسة لمنزلقات الحماقة والتسرع، اقتحاميا دون أن يغادر متطلبات العقل ولا أن يهمل الظروف المحيطة، ثوريا مرنا وممسكا بتقلبات السياسة ملما بحيثياتها وبتغيراتها، حاسما فيما يتعلق بالقرارات المصيرية والتوجهات الضرورية لا مجال عنده للتساهل أو التسامح أو التراخي، حكيما بلا غرور، لا يعدم الحيلة ولا الوسيلة، ولكنه لا يغفل الالتزام بالتواضع لرفاقه وحزبه ولجماهير شعبه، محبا ومعينا لهم لا يتردد في نجدة المحتاج ونصرة المظلوم وردع الظالم المعتدي.
لقد كان خلطة كيميائية عجيبة فريدة، حتى ليخيل لمتابعه ومراقبه، أنه كتلة من المتناقضات التي لا تلتقي ولا يستوي أن تلتقي في شخص واحد، غير أن الحقيقة خلاف ذلك تماما، فهو طاقة إبداعية أودعت خصالا وطباعا ومواهب قلما أن تودع في رجل واحد.
لذلك وأكثر كان عنصرا لامعا وملفتا للأنظار في مسيرة الحزب أثناء النضال السري ثم خلال الحكم والتمكين وفي خضم المواجهات المصيرية الكبرى وحتى لمرحلتي المقاومة ثم الأسر وصولا للاستشهاد.
منذ التحاق صدام حسين بالحزب، جذب الأنظار إليه، ولفت اهتمام قادات البعث بالنظر لتلك الخصال، وبناء على ما قدروه فيه من مواهب، ولما أظهره هو ذاته من خلال تصرفاته من انضباط صارم ومن تقيد بمبادئ الحزب وقدرة عالية على إنجاز المهام والمهمات الموكلة إليه بنجاح مبهر وبأقل قدر من الأخطاء وفي أقل وقت متاح.
وبالتدرج، وبناء على ما امتلكه من كفاءة منقطعة النظير في العمل الميداني، وكذلك الحرفية الفريدة في التخطيط والتنفيذ معا، والمرونة الكبيرة في الملاءمة بين الخطط التكتيكية والخطط الاستراتيجية، نال صدام حسين ثقة رفاقه للتعويل عليه ضمن كوكبة من رجالات البعث في أدق المهمات وأخطرها، لذلك كان في الصفوف الأمامية لطلائع البعث في كل المراحل التي تلت انتسابه للحزب، بل إنه تواجد في الحلقات الحزبية الضيقة جدا التي أنيطت بها مهام إنجاز ثورة الحزب في العراق ضد الأنظمة التي جثمت على صدور العراقيين سواء الرجعية منها أو التغريبية الفاشية والتي سعت لضرب عروبة بلاد ما بين النهرين وتحييدها عن دورها القومي التاريخي الثابت والمعروف.
ولم يقتصر دوره في المرحلة السرية على الإعداد والتخطيط للمهام الثورية الجسام التي كان رهان الحزب عليها كبيرا، لا لأهميتها بالنسبة إليه فحسب، بل ولضرورتها الوطنية والقومية العربية ككل، وأبدى صدام حسين مؤهلات تنظيمية واسعة، تميزت بعلو الكعب وبالصرامة وبالحزم الكبيرين. وإنه ليضيق المجال ههنا لتعداد أوجه أدائه التنظيمي كما يضيق بتبيان مساهماته في مسيرة الحزب النضالية ضد طغمة الحكام الفاسدين، لأن كل نقطة منهما تستحق مساحة معتبرة ويتوجب فيها إرفاقها بالتاريخ والأرقام والملابسات الدقيقة التي قد تشتت ذهن القارئ إذا أدرجت بين هذه الأسطر.
إلا أن ذلك لا يمنع من الإشارة برقيا لحضور صدام حسين ضمن طلائع البعث في ثورة البعث عام 1958، ثم في 1963 ضد نظام عبد الكريم قاسم، كما لا يمنع من الإشارة لأدائه المبهر خلال مرحلة السجن التي بين فيها شجاعته الكبيرة حيث تحمل شتى صنوف التعذيب لكنه لم يمكن السلطة وأجهزة التحقيق من أي تفصيل مهما كان بسيطا وعرضيا حتى يؤمن سلامة الحزب وتنظيمه ورفاقه.
هذا ولقد كان لصدام حسين دور أساسي ومتقدم ومهم جدا إلى جانب طلائع البعث وسواعده الثورية وعقوله المفكرة في تفجير ثورة تموز – جويلية 1968، وضمان شروط نجاحها وممهداته، لتبدأ صفحة مشرقة ووضاءة في تاريخ العراق والحزب على حد سواء.
فمنذ ذلك التاريخ الأغر، انطلق العراق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وصدام حسين في حلقاته القيادية العليا، معانقا لمسيرة البناء والتعمير والتشييد ونحت معالم نهضة شاملة تزاوج فيها السياسي بالاجتماعي، وتعانق خلالها الاقتصادي بالتربوي، وتشابك ضمنها العلمي بالإنساني، وترافق العسكري مع الثقافي، وتناسق الديبلوماسي مع القانوني، وسار فيها الوطني والقومي والإنساني جنبا إلى جنب، فتشكلت لوحة فسيفسائية حضارية متكاملة حبلى بالإرادة والعزم والتصميم على نقل العراق لمراتب تتناسب مع تاريخه الحضاري ورصيده الفكري وموروثه الثقافي.
باشرت القيادة الثورية العراقية الجديدة بقيادة حزب البعث العمل على تطوير الحياة في البلد، واعتمدت نهجا ثوريا مستمدا من روح فلسفة الحزب ونظرته ورؤاه وقراءته للواقع العراقي والعربي عموما ومرتكزا على الحلول التي كان قد شدد عليها منذ ما قبل الثورة، فعاش العراقيون على وقع ثورة تعليمية وتدريسية غير مسبوقة، كما لامسوا العناية الفائقة بتطوير البنى التحتية كافة، كما تحسسوا النسق غير المسبوق لتقريب الخدمات للمواطن وإضفاء الجودة العالية عليها، وتفيؤوا ظلال حسن توظيف موارد الدولة وثروات الوطن وهو الزاخر بها من نفط ونخيل ومياه وغيرها.
وفي الواقع، ارتقى العراق في بضع سنوات منذ ثورة تموز ارتقاء مدهشا، زاده تعميم الأمن والحرص على وحدة البلاد وتآلف شعبها ألقا.
ولقد كان صدام حسين في كل هذا المسار، أحد أبرز العقول المخططة لتأثيثه ولإنجاحه ذلك انه كان نائب الرّئيس الراحل أحمد حسن البكر رحمه الله، وتحمل مسؤوليات جساما ولعب أدوارا مهمة في الحياة السياسية والأمنية والاجتماعية في العراق.
فلقد ساهم صدام حسين بدور متقدم في معركة التأميم بما لها من دلالات وما لف بها من مخاطر، وهي المعركة التي أعادت ثروات العراق والعراقيين للعراق، وحالت دون استنزاف القوى الامبريالية والاستعمارية المعادية لمقدرات بلاد ما بين النهرين، وهو ما منح العراق طفرة اقتصادية ومالية هائلة، كما كان حاضرا بقوة في مسار منح الأكراد الحكم الذاتي بمعانيه الإنسانية ومضامينه الثورية المستقاة من الطابع الطلائعي الرسالي الإنساني لحزب البعث، وحقق بذلك نجاحا مبهرا رفقة كوكبة رفاقه القادة في الحيلولة دون استغلال أعداء العراق وخاصة الفرس والأمريكان والصهاينة لحالة الصراع الداخلي باستقطاب بعض القيادات الكردية ودعمها وتوظيفها لاختلاق البلبلة وبث الفوضى منعا للاستقرار في العراق لتعويق المسيرة النهضوية العملاقة التي بدت معالمها وإرهاصاتها واضحة منذ البداية وهو ما جلب التآمر المتواصل على العراق ونظامه وحزب البعث العربي الاشتراكي وصدام حسين شخصيا.
ولا تتوقف إسهامات صدام حسين مع رفاقه في هذه المسيرة الوضاءة المشرقة من تاريخ العراق بقيادة حزب البعث عند هذه الحدود، ولا يمكن ههنا التغافل مطلقا عن ملكات صدام حسين السياسية والديبلوماسية ومرونته العالية في التفاوض دون أن تكون المرونة بوابة للتنازل عن الحقوق أو التفويت فيها، إذ قاد صدام حسين المفاوضات بين العراق وإيران حول ترسيم الحدود وتوجها باتفاقية الجزائر الشهيرة ولقائه مع الشاه، ليجنب العراق محاولات الاعتداءات الفارسية وليعزز حقوق العراق دونما خسائر، لتظهر ميزة جديدة من المميزات المتعددة في شخصية صدام حسين، فيعانق العراقيون والعرب صدام المفاوض والمناور والديبلوماسي إلى جانب صدام الصارم القوي.
هذا، ويظل إرجاع العراق لحاضنته العربية وتحمله دوره القومي الريادي أحد أبرز إسهامات صدام ضمن إنجازات ثورة البعث الخالدة وحكمه الوطني، وهو ما سيزداد تألقا خصوصا بعد صعوده لتحمل المسؤولية الأولى في الدولة وفي الحزب في العراق.
فمنذ صعود صدام حسين للمنصب الأول في الدولة العراقية عام 1979، تسارعت وتيرة الإنجازات على مستوى مسيرة البناء والتعمير والتطوير التي أشرنا إليها سابقا، ولم تنقطع ولم يتراجع ألقها رغم أن الدوائر المعادية للعراق وللعرب عموما ولحزب البعث سرعان ما كشرت عن أنيابها وأفصحت عن عدائها الصريح للمشروع الوحدوي القومي التحرري الذي يحمله الحزب لا نظريا فقط ولكن على مستوى التطبيق والتنفيذ على الميدان.
ولقد انتدبت الدوائر الامبريالية والصهيونية العالمية المجرم الخميني ومعه زمرة الملالي فأوكلت لهم محاربة تجربة العراق في ظل نظامه الوطني، وصعدتهم للحكم بعد الاستيلاء على ثورة الشعوب الإيرانية عام 1979، وأمدتهم بشتى أنواع الدعم، فانطلق العدوان الإيراني الغادر على العراق عام 1980 وامتد ثمانية سنوات انتهت بالفشل الذريع لمنظومة ولاية الفقيه المتخلفة الشعوبية، ليضطر الدجال الخميني لإعلان وقف النار بعد أن تجرع السم الزعاف بعدما لقنه العراق جيشا ونظاما وشعبا درسا في الصمود الأسطوري، ويخرج العراق بعدها منتصرا، ومتحوزا على جيش كفء متمرس زادته الحرب رغم فظاعتها صلابة وخبرة وتجربة وجهوزية.
ولقد اضطر الأمريكان والصهاينة في إطار الانتقام من هذا النجاح الباهر للعراق بقيادة صدام حسين وحزب البعث وجيش العراق الباسل وشعبه المناضل، إلى التدخل مباشرة والاستغناء عن الوكلاء.
واستغلوا جميعا حادثة الكويت فباشروا عدوانا جائرا انطلق بداية تسعينات القرن العشرين بمشاركة 32 دولة بقضها وقضيضها، ثم تواصل العدوان الثلاثيني بشكل أشد وحشية وضراوة من خلال فرض الحصار الظالم الذي امتد على 13 عاما كاملا حرم فيه العراق وشعبه من أبسط الأساسيات، وكان الغرض منه كما بات معلوما للجميع بعد أن أنكروه سابقا هو التهيئة للإجهاز على العراق وتدميره وكسر نهضته وإنهاء نظامه الوطني وقيادته المناضلة برئاسة صدام حسين.
وليس يخفى ما تلا الحصار من غزو أمريكي بربري همجي أتى على الأخضر واليابس في بلاد الرافدين وخرب منجزات الدولة العراقية ومكتسبات شعبنا العربي في العراق .
وخلال هذه المرحلة العصيبة، ازداد صدام حسين ثباتا وتألقا وحظوة لدى أحرار الأمة والعالم، حيث كشف عن أصالته وشجاعته ورباطة جأشه وصموده الخارق بوجه أعتى قوى العالم، ولم يرتضي الذل والمهانة ولا الانصياع للإملاءات المذلة، وثبت اسمه وحزبه ورفاقه بأحرف غراء ناصعة على جبين التاريخ، فلم يهادن الغزاة ولم يتخل عن المبادئ ولم يجبن بل قاتل للرمق الأخير، وحرض رفاقه وأبناء شعبه الأحرار والأوفياء وواصل استنهاض هممهم وتحفيزهم ودفعهم على الثبات في ساحة المعركة على اعتبار أنها أهم معارك الأمة إذا انتصر فيها العراق انتصرت هي وإذا انهزم لا سمح الله فسيكون ذلك إيذانا باندثارها.
لقد صمد صدام حسين منذ تسعينات القرن العشرين ولحين غزو العراق، وظل وفيا أمينا للفكرة الثورية القومية العربية الأصيلة، فكان يحارب باليد اليمنى ويبني باليسرى كما أوصى أيقونة البعث والنضال القومي مؤسس البعث الرفيق القائد ميشيل عفلق، كما لم ينس فلسطين التي خصها بعبارته الشهيرة إبان الحرب الإيرانية العراقية قائلا " نحن لا ننسى فلسطين "، كما استمر منافحا مكافحا في سبيل إعلاء راية العروبة على امتداد ربوع الوطن العربي الكبير.
وحتى بعد غزو العراق، لم يفتر عزم صدام حسين، فقاد المقاومة العراقية الباسلة ضد الغزاة، ونظم صفوفها ووضع لها الخطط والتكتيكات، وهيأ لها الظروف لتكبد الأعداء خسائر فادحة انتهت بكسر شوكتهم عام 2011 رغم استشهاده قبلها بسنوات.
وما بين المقاومة والأسر، ثبت صدام حسين على تفرده وصلابته وتميزه، بل وتوسعت كلماته ليتوسع معها مقدار الاحترام الكبير لشخصه لدى كل المتابعين في العالم. وظهر مقداما صبورا في المحكمة المهزلة التي تعرض لها رفقة كوكبة رفاقه من قادة حزب البعث العربي الاشتراكي وخيرة أبناء العراق، فكان هو القاضي وكان فريق المحكمة متهمين، وكان هادئا متماسكا وكانوا ( أي من هيئ لهم أنهم بصدد محاكمته ) مرتبكين متشنجين، وكان أصيلا وكانوا أخسة، وكان قوي الحجة سريع البديهة وكانوا عاجزين مأجورين مفلسين غير قادرين على مجاراته ولا مقارعته الدليل بالدليل.
ولم تتوقف مآثر الرجل عند هذا الحد، بل إنه فاجأ العالم برصيد الإيمان المذهل وبمنسوب الشجاعة الخرافي وبمستوى الثبات الخارق للعادة على منصة المشنقة بعد أن صدر ضده حكم الإعدام يوم النحر الأكبر، ليبقى ذلك المشهد المهيب ووقفة العز والشموخ تلك، أبلغ من أي تحليل أو قراءة أو بحث، كما ستبقى أقوى رد لكل الذين سولت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء التشكيك في مبدئية الرجل ومصداقيته وشجاعته ونضاليته ومناقبه وخصاله التي تجمعت فيها الرجولة والإيثار والفداء والثبات والأصالة والنجابة وعلو الهمة وصلابة الإرادة والوفاء والاستبسال.
لقد كان إيراد هذه الإشارات البرقية والومضات اللافتة المقتضبة من أبرز مناقب الشهيد الخالد القائد صدام حسين ومن أهم مراحل حياته النضالية الممتدة لأكثر من نصف قرن، بما لها من مضامين ولما تنضح به من خصال ومواهب فريدة ومجتمعة في امرئ واحد، ضروريا حتى تخرس تلك الأفواه المتقولة على الرجل وعلى من رام استذكار سيرته العطرة الغراء الخالدة، ولتبيان وجاهة ذلك من جهة، كما كان أشد وجوبا لنذكر بعض من الشرائح العربية التي ينبغي لها إعادة دراسة مسيرة صدام واستقراء خصاله ومواهبه والتمحيص في مواقفه المبدئية والوقوف طويلا عند استمراريته الثورية في مختلف المراحل وفي كل الظروف بل ومتجاوزا للمادي الملموس فيعانق الإلهام الثوري بعد ارتقائه شهيدا سعيدا مجيدا فريدا.
وحين نتحدث عن بعض الشرائح، فإننا نعني وجوبا النظام العربي الرسمي وكذلك النخب العربية بشتى أصنافها.
فعلى هؤلاء مجتمعين، أن يعاودوا قراءة المسألة القومية العربية بتشعباتها وبكل ما أحاط بها من تلبيس وتشويه وبجميع ما عرفته من مطبات ذاتية وأخرى مدسوسة، وينزلوا في إطار السعي لمعالجتها سيرة أحد أهم أعلام الثورة العربية الكبرى وأبرز روادها وأعظم قاماتها وأشد أركانها وأطوادها ثباتا وأصالة ومبدئية، وهو بكل تجرد صدام حسين، فيولونها ما تستحق من قراءة متأنية متجردة علمية أمينة وموضوعية بلا تحامل أو مجاملة أو عداء أو مناصرة، ويتمعنون في بنيته الشخصية وسماته ومميزاته وملكاته، عساهم يدركون شرط التزام الحيادية أن لا خلاص للأمة ولا مناص لها إن كانت نية النخب صادقة لتغيير واقعها المعيش وقد بلغ منعطفا خطيرا تشارف معه على التفكك فالاندثار، من التأسي به.
على هذه النخب، أن تدرك يقينا أن الرهان على غير طاقات الأمة وجهود أبنائها إنما هو دليل قصور في الإدراك وسليل تنكر مقصود ومبيت لتحمل المسؤولية المترتبة عليها تجاه العرب سواء كانت قانونية أو سياسية أو أخلاقية أو كفاحية نضالية، وأن تنتصر للأمة ولقضاياها وأن تعمل على توفير كل السبل لاسترجاع حقوقها وتحرير أراضيها من الاستعمار وما لذلك من استتباعات، وهنا لا بد لها أن تسير على ما سار عليه صدام حسين وأن تتحلى بما تحلى به من شجاعة وإرادة وعزيمة وإيمان خاصة للحد الذي بلغ معه أن وهب نفسه وأهله وضحى بكل المفاخر والامتيازات فداء كرامة شعبه وحريته وتحرير أرضه والحفاظ على ثرواته وتاريخه ومنجزاته.
فهل يستوعب العرب النخبويون الدروس من سبب الإصرار على تغييب صدام حسين؟
وهل اتضحت لهم الصورة وانجلت عن أعينهم الغشاوة بعد كل هذه السنوات ورغم كل هذا الدمار الذي اجتاح ساحات الوطن العربي الكبير العزيز؟
ألا يتلمسون ويتحسسون الاستهتار الإيراني الفارسي الصفوي لأمنهم وبنيانهم ونسيجهم المجتمعي؟
ألا يرون تصاعد الصلف الصهيوني حتى بلغ منتهاه؟
هلا يزالون يراهنون على أمريكا وقد ثبت إجرامها بالدليل القاطع، وتعرت حقيقتها القذرة وانكشف كذبها المخزي، خاصة وقد تتالت اعترافات أجهزتها الاستراتيجية ببطلان غزو العراق ولا قانونيته؟
ألم يصدح صدام حسين وحزبه ورفاقه بكل الذي يخيم على العرب من أخطار وما يعصف بهم محن؟
ألم يتصدى صدام والبعث والعراق وطلائع العرب للخطر الفارسي ونبهوا إليه وهو لا يزال في المهد؟
ألم يحارب صدام والبعث والعراق الصهيونية والأطماع الأمريكية طيلة عقود؟
فما الذي يمنعهم من الاتعاظ والاعتبار؟
وهل من أمل لذلك؟؟
سننتظر..
وسيكون الانخراط في المشروع التحرري الوطني والقومي والإنساني للمقاومة العراقية الباسلة باعتبارها وريث تجربة النظام الوطني في العراق وصدام حسين أحد أبرز مهندسيه، ولكونه مؤسسها ومنظمها، ثم مودعها لخير المؤهلين المؤتمنين عليها اقتدارا وتجربة وخبرة ودراية وأصالة وثباتا ومقاومة وتمرسا بعوالم الحروب والسياسية ومناورتها، رفيق دربه حادي الجمع المؤمن المقاوم، القائد المقاوم عزة إبراهيم نائبه ورفيق دربه الطويل!!
أنيس الهمامي
نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام
( عن صدّام حسين، نكتب مجددا ودوما، بمناسبة ذكرى ميلاده 81 )
نٌشر على أربع حلقات ضمن احتفاليّات نيسان التي أقامتها نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام طيلة شهر نيسان - أبريل 2018
قبل كل شيء، ومرة أخرى، فإننا نخص شهيد الحج الأكبر صدام حسين بالكتابة له وعنه وفيه كلما اقتضت الضرورة، ونعاود التأكيد والتشديد على أنه لا علاقة لذلك بما قد نرمى به من تهم على غرار تقديس الأشخاص، أو الإيغال في التزمت والانغلاق والتقوقع ورفض المراجعات وغير ذلك من تهم لاكها المناوئون سواء من مبغضي الرجل أو من مدعي الانتصار له.
إننا نعيش هذه الأيام، على وقع حلول الذكرى الحادية والثمانين لميلاد شهيد البعث والعراق والأمة العربية صدام حسين، بكل ما أثاره الرجل من جلبة مناضلا ثائرا وقياديا بعثيا ورجل دولة في مناصب مختلفة ثم مقاوما مكافحا فأسيرا فشهيدا، وبكل ما أساله من حبر فتقاذفته شتى ألوان الاتهامات حينا وفندتها مدايات أقلام وظهور حقائق أحيانا أخرى.
لقد ولد ونشا وترعرع صدام حسين في بيئة عربية متواضعة، وفي أوضاع عائلية يشوبها عدم الاستقرار بالنظر لوفاة والده صغيرا فعانى اليتم مبكرا، وقاسى الحرمان بألوانه، وتعقدت وضعيته بزواج أمه، ما اضطره لتحمل مسؤوليته بنفسه بالرغم من صغر سنه.
اختار صدام حسين في تلك المرحلة على دقتها وصعوبتها، أن يتحدى عاديات الزمن وأن يتجاوز محن اليتم والفاقة والفقر والخصاصة، فلم يستسلم للمعوقات التي كانت تمنع التحاقه بالمدرسة، ولم يحفل لبعد المسافة ولا لقلة ذات اليد، وكان تصميمه على الإقبال على طلب العلم أكبر مما سواه، وهو ما دفعه لأن يجوب أرجاء القرية أوقات فراغه وأيام الآحاد والعطل، للكسب وتوفير مستلزمات الدراسة، فكان يبيع السجائر طورا ويمتهن مهنا فيها من المشقة ما فيها مقارنة بعمره، بل ويروي من عرفوه وعايشوه وقتها سواء من أترابه أو من الجيران والأهل، أنه ما كان ليعيقه عن الحركة عائق سواء كان مناخيا أو ماديا، إذ كان ينتعل أحذية بالية في الغالب بل وكان يقضي ساعات طوالا حافيا، لكن تصميمه على التعلم كان أكبر من كل ما سواه.
وفي الحقيقة، لم تكن هذه أهم معالم صعوبة طفولته ونشأته الأولى، بل لعل أهم ما طبع تلك المرحلة من حياته طبيعة والدته رحمها الله، والتي كانت ضنينة في مشاعرها، كدأب أمهاتنا خصوصا في القرى والأرياف، حيث لم تكن تكشف عن حبها ولا تفصح عن مشاعرها إلا نادرا، بل كانت تميل للتظاهر بالقسوة حتى يزداد ابنها تصميما على التعويل على نفسه، ويشتد عوده وتصلب إرادته وتصقل شخصيته ويشب على تحمل المسؤولية وحسن التصرف ويتدرب على مجابهة صروف الدهر ومقارعة نوائب الزمن وعادياته.
ولقد طبعت هذه النشأة بكل ما أحاط بها شخصية صدام حسين ونحتتها ونمّت مواهبه فيما بعد، واستطاع بالتالي شق درب الحياة بتصميم عالي على معانقة النجاح والتميز، واكتسب خبرة في تجاوز العوائق وتذليل المشاق وتخطي الأزمات، كما كانت مطامحه جبارة وتطلعاته عظيمة متلازمة مع ظروف نشأته تلك، وكان عزمه على تغيير حياته وحياة الآخرين كبيرا، فلم يكن راضيا على نمط حياته وحياة محيطه ولا شعبه، وهو ما دفعه دوما للتفكير في إيجاد السبل الكفيلة بالتطوير والتغيير والتثوير، ذلك أنه لم يكن من أولئك المتماهين مع الواقع المستسلمين له ولإكراهاته وجوره وغياب العدل فيه، كما لم يكن من الذين يقنعون بما يفرضه الحكام واستبدادهم وتعاليهم عن استحقاقات الجماهير وانتظاراتها واستخفافهم بمصالحها ولا بملفاتها الحارقة ولا بحقوقها في الحياة الكريمة بعيدا عن الوصاية والإكراه والتسلط واستغلال النفوذ وغير ذلك.
ولقد وجد صدام حسين في حزب البعث العربي الاشتراكي ذلك الإطار الذي يستجيب ويتوافق مع رؤاه ومواقفه ومبادئه، ويستوعب طبيعته وشخصيته بمواصفاتها التي ذكرنا أهمها أعلاه.
ولهذا فلقد انضم يافعا وبلا تردد لصفوف هذا الحزب لتبدأ مرحلتان مهمتان سواء في حياة صدام حسين شخصيا أو في مسيرة الحزب ككل.
لم يكن انتساب صدام حسين لحزب البعث العربي الاشتراكي حدثا عاديا لا بالنسبة إليه ولا إلى الحزب، بل إنه سيكون له ما بعده، وستفتح صفحة جديدة ثلاثية الأبعاد ثم لتكتسب بعدا رابعا فيما بعد، وهذه الأبعاد الثلاثة هي البعد الشخصي لصدام حسين والبعد النضالي والإضافة الفكرية والوجه السياسي لجزب البعث ثم البعد النضالي على مستوى الفعل العربي القومي أي بما يعني تأثير صدام حسين في أداء الأمة ككل، ليكون البعد الرابع بطبيعة الحال هو البعد الدولي أو الأممي وهو ما سنتناوله بالتحليل لاحقا في آخر هذه المقال.
فمن نافلة القول إذن، إن صدام حسين قد وجد في حزب البعث بفكره وخطه النضالي ومنهاجه الاستراتيجي العام وبطابعه الرسالي وعقيدته التنظيمية الحديدية ورهاناته ومهامه التي فرضها على نفسه بنفسه وبانقلابيته وثوريته وعلمانيته - دون معارضة الدين أو محاربته ولا التصادم معه على شاكلة الأحزاب الماركسية العربية أو المتاجرة به وتوظيفه توظيفا سياسيا مبتذلا لخداع الناس وابتزازهم ومنعهم عن الفعل والإنجاز ببث روح الاستسلام والتواكل والرضى وملاحقة الغيبيات كدأب الحركات القائمة على الدين ذات التوجهات والسياسات الرجعية – وبسعيه الدؤوب وحزمه وعزمه الصارم على تثوير الجماهير العربية والرقي بها لما تتطلبه مهمة تحرير الأرض وطرد الاستعمار ومحاربة الغزاة والطغاة وناهبي ثروات الأمة من متطلبات ومواصفات وشروط وبنهجه المقاوم مقاومة شاملة مركبة تغطي الصعد الفكرية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، ظالته ومبتغاه بما يتوافق مع طبيعتة ومواصفاته وبنيته الشخصية التي أسلفنا الإشارة إليها أعلاه.
فلقد كان التوافق كبيرا إلى حد بعيد بين ما انبنت عليه شخصية صدام حسين وطباعه وصفاته، فاستوعب الحزب هذا الشاب اليافع استيعابا أمثل، بل إنه كان باعتبار عقيدته وبنيته الثورية العقائدية في حاجة لتطعيم صفوفه بمثل هذه العينة المثلى من الشباب الذين تتوفر فيهم صفات البعثي وشروط بناء المناضل البعثي في أسمى تجلياته، حيث كانت عملية الكسب في حزب البعث العربي الاشتراكي عملية شديدة الدقة ومهمة بالغة التعقيد، ذلك أن الحزب ونظرا لطبيعته وتوجهاته ومهامه الثورية الرسالية الانقلابية وخططه التحررية القومية والإنسانية، ولما يحيق به من أخطار محدقة تتربص به من كل صوب وحدب، لا يمكنه فتح أبوابه لكل من رغب في الانضمام إليه دونما تحري أو تمحيص أو تدقيق بشأنه، وكان الملتحقون الجدد به يخضعون لاختبارات ودورات تكوينية شديدة العناية ناهيك عن المراقبة المستمرة والمتابعة اللصيقة والعناية البالغة حتى يأمن الحزب على نفسه ويؤمن صفوفه وتنظيماته من جهة، وحتى يصقل مواهب المنتمين ويرتقي بهم رقيا شاملا فيتأهلوا باستحقاق للطلائع الثورية القادرة على رفع لواء الحزب وإعلاء رايته وإعطاء الصورة المثلى عنه ما يكسبه سمعة حسنة ويجلب احترام الجماهير له وثقتها به، ولكي يكونوا أيضا على أهبة الاستعداد للدفاع عنه بوجه الأعداء سواء من خلال تشويهاتهم المغرضة أو في فترات الاعتداء المباشر.
وعليه، فلقد لامس حزب البعث في صدام حسين بملكاته الفكرية وذكائه الوقاد الخارق وبشجاعته وهمته وسخائه وإرادته الصلبة وشكيمته القوية وعزائمه الحديدية وبفراسته ونباهته وخاصة أصالته واستعداده الخرافي المبدئي لإعلاء راية العرب جميعا وتحقيق آمال الجماهير سواء في العراق أو في كل الوطن العربي في تغيير واقعها المتردي الذي تعاني فيه آفات مركبة بدورها بدءا بطغمة الحكام الرجعيين المستبدين وصولا للاستعمار والصهيونية ومن تذيلهم من القوى الإقليمية وبأطماعهم ومخططاتهم المهددة لمصالحها الاستراتيجية، مناضلا واعدا مبشرا بإضافة نوعية وبحقبة نضالية يسهم فيها بتصعيد النضال وتمتين الفعل البعثي.
فصدام حسين كان من تلك الطينة التي تستجيب لشروط المناضل البعثي العقائدي المستعد للتضحية في سبيل فكره وحزبه وقضايا أمته بالغالي والنفيس، ولا يقعده عنها أمر ولا يحول بينه وبينها حاجز مهما كان، كما كان ذا ملكات فكرية واسعة، وهو ما يجعل من منسوب استيعابه لفكر البعث وفلسفته عاليا جدا، بل لا يتوقف عند حدود الاستيعاب أو الإدراك، بل لهم من القدرة والإمكانيات ما يحدث بأنه سيكون فعلا أحد المبدعين في هذا المجال.
ولعل من أبرز ما يمكن اعتبار صدام حسين مكسبا للحزب وهو في بداية انتسابه وانضمامه بصفوفه، أنه كان شجاعا بلا تهور، مقداما لكن دون أن يتخلى عن التروي والحساب، مغامرا بلا مقامرة، مندفعا متحمسا دون أن تأخذه الحماسة لمنزلقات الحماقة والتسرع، اقتحاميا دون أن يغادر متطلبات العقل ولا أن يهمل الظروف المحيطة، ثوريا مرنا وممسكا بتقلبات السياسة ملما بحيثياتها وبتغيراتها، حاسما فيما يتعلق بالقرارات المصيرية والتوجهات الضرورية لا مجال عنده للتساهل أو التسامح أو التراخي، حكيما بلا غرور، لا يعدم الحيلة ولا الوسيلة، ولكنه لا يغفل الالتزام بالتواضع لرفاقه وحزبه ولجماهير شعبه، محبا ومعينا لهم لا يتردد في نجدة المحتاج ونصرة المظلوم وردع الظالم المعتدي.
لقد كان خلطة كيميائية عجيبة فريدة، حتى ليخيل لمتابعه ومراقبه، أنه كتلة من المتناقضات التي لا تلتقي ولا يستوي أن تلتقي في شخص واحد، غير أن الحقيقة خلاف ذلك تماما، فهو طاقة إبداعية أودعت خصالا وطباعا ومواهب قلما أن تودع في رجل واحد.
لذلك وأكثر كان عنصرا لامعا وملفتا للأنظار في مسيرة الحزب أثناء النضال السري ثم خلال الحكم والتمكين وفي خضم المواجهات المصيرية الكبرى وحتى لمرحلتي المقاومة ثم الأسر وصولا للاستشهاد.
منذ التحاق صدام حسين بالحزب، جذب الأنظار إليه، ولفت اهتمام قادات البعث بالنظر لتلك الخصال، وبناء على ما قدروه فيه من مواهب، ولما أظهره هو ذاته من خلال تصرفاته من انضباط صارم ومن تقيد بمبادئ الحزب وقدرة عالية على إنجاز المهام والمهمات الموكلة إليه بنجاح مبهر وبأقل قدر من الأخطاء وفي أقل وقت متاح.
وبالتدرج، وبناء على ما امتلكه من كفاءة منقطعة النظير في العمل الميداني، وكذلك الحرفية الفريدة في التخطيط والتنفيذ معا، والمرونة الكبيرة في الملاءمة بين الخطط التكتيكية والخطط الاستراتيجية، نال صدام حسين ثقة رفاقه للتعويل عليه ضمن كوكبة من رجالات البعث في أدق المهمات وأخطرها، لذلك كان في الصفوف الأمامية لطلائع البعث في كل المراحل التي تلت انتسابه للحزب، بل إنه تواجد في الحلقات الحزبية الضيقة جدا التي أنيطت بها مهام إنجاز ثورة الحزب في العراق ضد الأنظمة التي جثمت على صدور العراقيين سواء الرجعية منها أو التغريبية الفاشية والتي سعت لضرب عروبة بلاد ما بين النهرين وتحييدها عن دورها القومي التاريخي الثابت والمعروف.
ولم يقتصر دوره في المرحلة السرية على الإعداد والتخطيط للمهام الثورية الجسام التي كان رهان الحزب عليها كبيرا، لا لأهميتها بالنسبة إليه فحسب، بل ولضرورتها الوطنية والقومية العربية ككل، وأبدى صدام حسين مؤهلات تنظيمية واسعة، تميزت بعلو الكعب وبالصرامة وبالحزم الكبيرين. وإنه ليضيق المجال ههنا لتعداد أوجه أدائه التنظيمي كما يضيق بتبيان مساهماته في مسيرة الحزب النضالية ضد طغمة الحكام الفاسدين، لأن كل نقطة منهما تستحق مساحة معتبرة ويتوجب فيها إرفاقها بالتاريخ والأرقام والملابسات الدقيقة التي قد تشتت ذهن القارئ إذا أدرجت بين هذه الأسطر.
إلا أن ذلك لا يمنع من الإشارة برقيا لحضور صدام حسين ضمن طلائع البعث في ثورة البعث عام 1958، ثم في 1963 ضد نظام عبد الكريم قاسم، كما لا يمنع من الإشارة لأدائه المبهر خلال مرحلة السجن التي بين فيها شجاعته الكبيرة حيث تحمل شتى صنوف التعذيب لكنه لم يمكن السلطة وأجهزة التحقيق من أي تفصيل مهما كان بسيطا وعرضيا حتى يؤمن سلامة الحزب وتنظيمه ورفاقه.
هذا ولقد كان لصدام حسين دور أساسي ومتقدم ومهم جدا إلى جانب طلائع البعث وسواعده الثورية وعقوله المفكرة في تفجير ثورة تموز – جويلية 1968، وضمان شروط نجاحها وممهداته، لتبدأ صفحة مشرقة ووضاءة في تاريخ العراق والحزب على حد سواء.
فمنذ ذلك التاريخ الأغر، انطلق العراق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وصدام حسين في حلقاته القيادية العليا، معانقا لمسيرة البناء والتعمير والتشييد ونحت معالم نهضة شاملة تزاوج فيها السياسي بالاجتماعي، وتعانق خلالها الاقتصادي بالتربوي، وتشابك ضمنها العلمي بالإنساني، وترافق العسكري مع الثقافي، وتناسق الديبلوماسي مع القانوني، وسار فيها الوطني والقومي والإنساني جنبا إلى جنب، فتشكلت لوحة فسيفسائية حضارية متكاملة حبلى بالإرادة والعزم والتصميم على نقل العراق لمراتب تتناسب مع تاريخه الحضاري ورصيده الفكري وموروثه الثقافي.
باشرت القيادة الثورية العراقية الجديدة بقيادة حزب البعث العمل على تطوير الحياة في البلد، واعتمدت نهجا ثوريا مستمدا من روح فلسفة الحزب ونظرته ورؤاه وقراءته للواقع العراقي والعربي عموما ومرتكزا على الحلول التي كان قد شدد عليها منذ ما قبل الثورة، فعاش العراقيون على وقع ثورة تعليمية وتدريسية غير مسبوقة، كما لامسوا العناية الفائقة بتطوير البنى التحتية كافة، كما تحسسوا النسق غير المسبوق لتقريب الخدمات للمواطن وإضفاء الجودة العالية عليها، وتفيؤوا ظلال حسن توظيف موارد الدولة وثروات الوطن وهو الزاخر بها من نفط ونخيل ومياه وغيرها.
وفي الواقع، ارتقى العراق في بضع سنوات منذ ثورة تموز ارتقاء مدهشا، زاده تعميم الأمن والحرص على وحدة البلاد وتآلف شعبها ألقا.
ولقد كان صدام حسين في كل هذا المسار، أحد أبرز العقول المخططة لتأثيثه ولإنجاحه ذلك انه كان نائب الرّئيس الراحل أحمد حسن البكر رحمه الله، وتحمل مسؤوليات جساما ولعب أدوارا مهمة في الحياة السياسية والأمنية والاجتماعية في العراق.
فلقد ساهم صدام حسين بدور متقدم في معركة التأميم بما لها من دلالات وما لف بها من مخاطر، وهي المعركة التي أعادت ثروات العراق والعراقيين للعراق، وحالت دون استنزاف القوى الامبريالية والاستعمارية المعادية لمقدرات بلاد ما بين النهرين، وهو ما منح العراق طفرة اقتصادية ومالية هائلة، كما كان حاضرا بقوة في مسار منح الأكراد الحكم الذاتي بمعانيه الإنسانية ومضامينه الثورية المستقاة من الطابع الطلائعي الرسالي الإنساني لحزب البعث، وحقق بذلك نجاحا مبهرا رفقة كوكبة رفاقه القادة في الحيلولة دون استغلال أعداء العراق وخاصة الفرس والأمريكان والصهاينة لحالة الصراع الداخلي باستقطاب بعض القيادات الكردية ودعمها وتوظيفها لاختلاق البلبلة وبث الفوضى منعا للاستقرار في العراق لتعويق المسيرة النهضوية العملاقة التي بدت معالمها وإرهاصاتها واضحة منذ البداية وهو ما جلب التآمر المتواصل على العراق ونظامه وحزب البعث العربي الاشتراكي وصدام حسين شخصيا.
ولا تتوقف إسهامات صدام حسين مع رفاقه في هذه المسيرة الوضاءة المشرقة من تاريخ العراق بقيادة حزب البعث عند هذه الحدود، ولا يمكن ههنا التغافل مطلقا عن ملكات صدام حسين السياسية والديبلوماسية ومرونته العالية في التفاوض دون أن تكون المرونة بوابة للتنازل عن الحقوق أو التفويت فيها، إذ قاد صدام حسين المفاوضات بين العراق وإيران حول ترسيم الحدود وتوجها باتفاقية الجزائر الشهيرة ولقائه مع الشاه، ليجنب العراق محاولات الاعتداءات الفارسية وليعزز حقوق العراق دونما خسائر، لتظهر ميزة جديدة من المميزات المتعددة في شخصية صدام حسين، فيعانق العراقيون والعرب صدام المفاوض والمناور والديبلوماسي إلى جانب صدام الصارم القوي.
هذا، ويظل إرجاع العراق لحاضنته العربية وتحمله دوره القومي الريادي أحد أبرز إسهامات صدام ضمن إنجازات ثورة البعث الخالدة وحكمه الوطني، وهو ما سيزداد تألقا خصوصا بعد صعوده لتحمل المسؤولية الأولى في الدولة وفي الحزب في العراق.
فمنذ صعود صدام حسين للمنصب الأول في الدولة العراقية عام 1979، تسارعت وتيرة الإنجازات على مستوى مسيرة البناء والتعمير والتطوير التي أشرنا إليها سابقا، ولم تنقطع ولم يتراجع ألقها رغم أن الدوائر المعادية للعراق وللعرب عموما ولحزب البعث سرعان ما كشرت عن أنيابها وأفصحت عن عدائها الصريح للمشروع الوحدوي القومي التحرري الذي يحمله الحزب لا نظريا فقط ولكن على مستوى التطبيق والتنفيذ على الميدان.
ولقد انتدبت الدوائر الامبريالية والصهيونية العالمية المجرم الخميني ومعه زمرة الملالي فأوكلت لهم محاربة تجربة العراق في ظل نظامه الوطني، وصعدتهم للحكم بعد الاستيلاء على ثورة الشعوب الإيرانية عام 1979، وأمدتهم بشتى أنواع الدعم، فانطلق العدوان الإيراني الغادر على العراق عام 1980 وامتد ثمانية سنوات انتهت بالفشل الذريع لمنظومة ولاية الفقيه المتخلفة الشعوبية، ليضطر الدجال الخميني لإعلان وقف النار بعد أن تجرع السم الزعاف بعدما لقنه العراق جيشا ونظاما وشعبا درسا في الصمود الأسطوري، ويخرج العراق بعدها منتصرا، ومتحوزا على جيش كفء متمرس زادته الحرب رغم فظاعتها صلابة وخبرة وتجربة وجهوزية.
ولقد اضطر الأمريكان والصهاينة في إطار الانتقام من هذا النجاح الباهر للعراق بقيادة صدام حسين وحزب البعث وجيش العراق الباسل وشعبه المناضل، إلى التدخل مباشرة والاستغناء عن الوكلاء.
واستغلوا جميعا حادثة الكويت فباشروا عدوانا جائرا انطلق بداية تسعينات القرن العشرين بمشاركة 32 دولة بقضها وقضيضها، ثم تواصل العدوان الثلاثيني بشكل أشد وحشية وضراوة من خلال فرض الحصار الظالم الذي امتد على 13 عاما كاملا حرم فيه العراق وشعبه من أبسط الأساسيات، وكان الغرض منه كما بات معلوما للجميع بعد أن أنكروه سابقا هو التهيئة للإجهاز على العراق وتدميره وكسر نهضته وإنهاء نظامه الوطني وقيادته المناضلة برئاسة صدام حسين.
وليس يخفى ما تلا الحصار من غزو أمريكي بربري همجي أتى على الأخضر واليابس في بلاد الرافدين وخرب منجزات الدولة العراقية ومكتسبات شعبنا العربي في العراق .
وخلال هذه المرحلة العصيبة، ازداد صدام حسين ثباتا وتألقا وحظوة لدى أحرار الأمة والعالم، حيث كشف عن أصالته وشجاعته ورباطة جأشه وصموده الخارق بوجه أعتى قوى العالم، ولم يرتضي الذل والمهانة ولا الانصياع للإملاءات المذلة، وثبت اسمه وحزبه ورفاقه بأحرف غراء ناصعة على جبين التاريخ، فلم يهادن الغزاة ولم يتخل عن المبادئ ولم يجبن بل قاتل للرمق الأخير، وحرض رفاقه وأبناء شعبه الأحرار والأوفياء وواصل استنهاض هممهم وتحفيزهم ودفعهم على الثبات في ساحة المعركة على اعتبار أنها أهم معارك الأمة إذا انتصر فيها العراق انتصرت هي وإذا انهزم لا سمح الله فسيكون ذلك إيذانا باندثارها.
لقد صمد صدام حسين منذ تسعينات القرن العشرين ولحين غزو العراق، وظل وفيا أمينا للفكرة الثورية القومية العربية الأصيلة، فكان يحارب باليد اليمنى ويبني باليسرى كما أوصى أيقونة البعث والنضال القومي مؤسس البعث الرفيق القائد ميشيل عفلق، كما لم ينس فلسطين التي خصها بعبارته الشهيرة إبان الحرب الإيرانية العراقية قائلا " نحن لا ننسى فلسطين "، كما استمر منافحا مكافحا في سبيل إعلاء راية العروبة على امتداد ربوع الوطن العربي الكبير.
وحتى بعد غزو العراق، لم يفتر عزم صدام حسين، فقاد المقاومة العراقية الباسلة ضد الغزاة، ونظم صفوفها ووضع لها الخطط والتكتيكات، وهيأ لها الظروف لتكبد الأعداء خسائر فادحة انتهت بكسر شوكتهم عام 2011 رغم استشهاده قبلها بسنوات.
وما بين المقاومة والأسر، ثبت صدام حسين على تفرده وصلابته وتميزه، بل وتوسعت كلماته ليتوسع معها مقدار الاحترام الكبير لشخصه لدى كل المتابعين في العالم. وظهر مقداما صبورا في المحكمة المهزلة التي تعرض لها رفقة كوكبة رفاقه من قادة حزب البعث العربي الاشتراكي وخيرة أبناء العراق، فكان هو القاضي وكان فريق المحكمة متهمين، وكان هادئا متماسكا وكانوا ( أي من هيئ لهم أنهم بصدد محاكمته ) مرتبكين متشنجين، وكان أصيلا وكانوا أخسة، وكان قوي الحجة سريع البديهة وكانوا عاجزين مأجورين مفلسين غير قادرين على مجاراته ولا مقارعته الدليل بالدليل.
ولم تتوقف مآثر الرجل عند هذا الحد، بل إنه فاجأ العالم برصيد الإيمان المذهل وبمنسوب الشجاعة الخرافي وبمستوى الثبات الخارق للعادة على منصة المشنقة بعد أن صدر ضده حكم الإعدام يوم النحر الأكبر، ليبقى ذلك المشهد المهيب ووقفة العز والشموخ تلك، أبلغ من أي تحليل أو قراءة أو بحث، كما ستبقى أقوى رد لكل الذين سولت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء التشكيك في مبدئية الرجل ومصداقيته وشجاعته ونضاليته ومناقبه وخصاله التي تجمعت فيها الرجولة والإيثار والفداء والثبات والأصالة والنجابة وعلو الهمة وصلابة الإرادة والوفاء والاستبسال.
لقد كان إيراد هذه الإشارات البرقية والومضات اللافتة المقتضبة من أبرز مناقب الشهيد الخالد القائد صدام حسين ومن أهم مراحل حياته النضالية الممتدة لأكثر من نصف قرن، بما لها من مضامين ولما تنضح به من خصال ومواهب فريدة ومجتمعة في امرئ واحد، ضروريا حتى تخرس تلك الأفواه المتقولة على الرجل وعلى من رام استذكار سيرته العطرة الغراء الخالدة، ولتبيان وجاهة ذلك من جهة، كما كان أشد وجوبا لنذكر بعض من الشرائح العربية التي ينبغي لها إعادة دراسة مسيرة صدام واستقراء خصاله ومواهبه والتمحيص في مواقفه المبدئية والوقوف طويلا عند استمراريته الثورية في مختلف المراحل وفي كل الظروف بل ومتجاوزا للمادي الملموس فيعانق الإلهام الثوري بعد ارتقائه شهيدا سعيدا مجيدا فريدا.
وحين نتحدث عن بعض الشرائح، فإننا نعني وجوبا النظام العربي الرسمي وكذلك النخب العربية بشتى أصنافها.
فعلى هؤلاء مجتمعين، أن يعاودوا قراءة المسألة القومية العربية بتشعباتها وبكل ما أحاط بها من تلبيس وتشويه وبجميع ما عرفته من مطبات ذاتية وأخرى مدسوسة، وينزلوا في إطار السعي لمعالجتها سيرة أحد أهم أعلام الثورة العربية الكبرى وأبرز روادها وأعظم قاماتها وأشد أركانها وأطوادها ثباتا وأصالة ومبدئية، وهو بكل تجرد صدام حسين، فيولونها ما تستحق من قراءة متأنية متجردة علمية أمينة وموضوعية بلا تحامل أو مجاملة أو عداء أو مناصرة، ويتمعنون في بنيته الشخصية وسماته ومميزاته وملكاته، عساهم يدركون شرط التزام الحيادية أن لا خلاص للأمة ولا مناص لها إن كانت نية النخب صادقة لتغيير واقعها المعيش وقد بلغ منعطفا خطيرا تشارف معه على التفكك فالاندثار، من التأسي به.
على هذه النخب، أن تدرك يقينا أن الرهان على غير طاقات الأمة وجهود أبنائها إنما هو دليل قصور في الإدراك وسليل تنكر مقصود ومبيت لتحمل المسؤولية المترتبة عليها تجاه العرب سواء كانت قانونية أو سياسية أو أخلاقية أو كفاحية نضالية، وأن تنتصر للأمة ولقضاياها وأن تعمل على توفير كل السبل لاسترجاع حقوقها وتحرير أراضيها من الاستعمار وما لذلك من استتباعات، وهنا لا بد لها أن تسير على ما سار عليه صدام حسين وأن تتحلى بما تحلى به من شجاعة وإرادة وعزيمة وإيمان خاصة للحد الذي بلغ معه أن وهب نفسه وأهله وضحى بكل المفاخر والامتيازات فداء كرامة شعبه وحريته وتحرير أرضه والحفاظ على ثرواته وتاريخه ومنجزاته.
فهل يستوعب العرب النخبويون الدروس من سبب الإصرار على تغييب صدام حسين؟
وهل اتضحت لهم الصورة وانجلت عن أعينهم الغشاوة بعد كل هذه السنوات ورغم كل هذا الدمار الذي اجتاح ساحات الوطن العربي الكبير العزيز؟
ألا يتلمسون ويتحسسون الاستهتار الإيراني الفارسي الصفوي لأمنهم وبنيانهم ونسيجهم المجتمعي؟
ألا يرون تصاعد الصلف الصهيوني حتى بلغ منتهاه؟
هلا يزالون يراهنون على أمريكا وقد ثبت إجرامها بالدليل القاطع، وتعرت حقيقتها القذرة وانكشف كذبها المخزي، خاصة وقد تتالت اعترافات أجهزتها الاستراتيجية ببطلان غزو العراق ولا قانونيته؟
ألم يصدح صدام حسين وحزبه ورفاقه بكل الذي يخيم على العرب من أخطار وما يعصف بهم محن؟
ألم يتصدى صدام والبعث والعراق وطلائع العرب للخطر الفارسي ونبهوا إليه وهو لا يزال في المهد؟
ألم يحارب صدام والبعث والعراق الصهيونية والأطماع الأمريكية طيلة عقود؟
فما الذي يمنعهم من الاتعاظ والاعتبار؟
وهل من أمل لذلك؟؟
سننتظر..
وسيكون الانخراط في المشروع التحرري الوطني والقومي والإنساني للمقاومة العراقية الباسلة باعتبارها وريث تجربة النظام الوطني في العراق وصدام حسين أحد أبرز مهندسيه، ولكونه مؤسسها ومنظمها، ثم مودعها لخير المؤهلين المؤتمنين عليها اقتدارا وتجربة وخبرة ودراية وأصالة وثباتا ومقاومة وتمرسا بعوالم الحروب والسياسية ومناورتها، رفيق دربه حادي الجمع المؤمن المقاوم، القائد المقاوم عزة إبراهيم نائبه ورفيق دربه الطويل!!
أنيس الهمامي
نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء