علي بن أبي طالب (ر)
7- صدام والديمقراطية : استخدم الان اسم صدام فقط لانه اكبر من كل الاوصاف الايجابية وهو الان اشهر اسم في العالم بلا منازع والمعرف لا يحتاج للتعريف من جهة ، كما ان الاتهامات الاساسية بالاستبداد وجهت له اكثر مما وجهت للحزب الذي كان امينه العام بالانتخاب من جهة ثانية . لهذا لابد من معرفة طبيعة صدام من هذا الجانب لانها تلقي الاضواء على الحقيقة كما هي بعيدا عن الاكاذيب والتشويهات .
من بين اهم ما ميز قيادة صدام ، لاجل ابقاء صلته بالشعب مباشرة وعدم الاكتفاء بتقارير الاجهزة الامنية والجهاز الحزبي والتي قد تكون غير كافية ، اسلوب توفير خطوط اتصال هاتفية مباشرة بالرئيس حيث كان كل مواطن لديه شكوى من اي شخص سواء من كبار المسؤولين في الدولة او الكوادر الحزبية او اقارب الرئيس والذين قد يسيء بعضهم التصرف او من لديه حاجة مشروعة كالعلاج خارج العراق وغير ذلك . يستطيع مكالمة الرئيس مباشرة وبلا وسيط .وكان الرئيس بالاضافة للحديث المباشر مع المواطنين هاتفيا يستقبل كل يوم وقبل اي واجب يقوم به صباحا مواطنين يحدد لهم موعدا للقاء معه مباشرة ومعرفة حاجته او مظلمته . واخيرا كان الرئيس يقوم بزيارات فجائية وغير معلنة لبيوت الناس ويفحص دورهم وطعامهم –ويأكل منه - ونظافتها ويستفسر عن حاجتهم ويسجل مرافقوه كل الطلبات وتلبى حتما .
والسؤال المهم هو : من من رؤوساء الغرب في امريكا الشمالية والاتحاد الاوربي يتحدث مع المواطنين بالهاتف مباشرة وبلا قيود بيروقراطية بناء على طلب المواطن ؟ ومن من الرؤوساء من يخصص ساعات من كل يوم لاستقبال الناس لعرض شكاواهم مباشرة عليه ؟ ان هذا النوع من الممارسات الفريدة ينتمي لما يسمى ب( الديمقراطية المباشرة ) والتي انقرضت منذ تعقدت الدولة وزاد عدد السكان واصبح غير عملي تفقد الناس مباشرة من قبل راس الدولة ، وهو سلوك عرفته اثينا في اليونان . كما انه ينتمي لتقاليد العرب الاصيلة حيث كان بعض الخلفاء مثل عمر بن الخطاب (ر) يقومون بزيارات للناس وهم مقنعون ولا يعرف المواطن من هم ليتعرف على رأيهم بالخليفة او وزراءه وحاشيته واقرباءه ويكشف عن حاجاتهم وحالتهم المادية .
وصدام عرف عنه -كقاعدة -قبل الثورة وبعدها انه لا ينفرد براي وانما يتشاور ويستفسر ولهذا وصف بانه كثير الاصغاء قليل الكلام ، وتلك صفات من يريد ان يعرف الحقيقة مباشرة كي يقوم بواجبه كرئيس او خليفة . ومن تقاليد العراق تحت حكم البعث ان الرئيس في اجتماعات قيادة الحزب او مجلس قيادة الثورة او مجلس الوزراء او في لقاءاته الدورية مع النقابات كان يطلب اولا من الحضور التحدث عما لديهم من ملاحظات وانتقادات ومقترحات حول بنود جدول الاعمال اولا وقبل ان بيدي هو رايه .
وهذه ظاهرة عرفتها شخصيا عنه بحكم عملي الاعلامي والنقابي والاداري حيث حضرت العديد من الاجتماعات مع الرئيس وكان يطلب رأينا الصريح وبلا تردد ويصر على الاستماع لآراءنا ، بل ان من كان يبدي رأيه بصراحة حتى لو تعارضت مع اراء الرئيس كان مفضلا لديه على من يتجنب ابداء الرأي ، والسبب هو ان من يملك الشجاعة الكافية للمعارضة وحرية الرأي هو المفضل في احتلال المواقع المهمة في الدولة والحزب .
ما سبق ذكره ليس فقط ما عرفته من بعد بل انه تجربتي الشخصية فقد عرفت صدام منذ عام 1963 وخالطته كثيرا وكنت مقربا منه حتى حصول الانشقاق في الحزب في عامي 1963و1964 حيث عملت مع المنشقين ورغم حدة الصراع وقتها بين الحزب والمنشقين فانه لم يقطع صلته الطيبة بي وببعض المنشقين وكان انطباعي القوي عنه انه غير مستبد برايه ويطلب اراء الاخرين بلا تردد ولكنه بنفس الوقت عندما يتعلق الامر بالحسم فانه يتمتع بقدرة عظيمة على اتخاذ القرار .
اذكر ذلك واضيف ، وفي سياق نقدنا لبعض اوجه الضعف التي كانت لدينا ، تفسيرا لظاهرة اتخاذه قرارات بدون الرجوع لكل اعضاء القيادة بل الاعتماد على بعضهم وعلى رايه ، وهو ان الضعف الفكري لبعض الكوادر الحزبية المتقدمة ، رغم انهم يتمتعون بقدرات نضالية عالية ، كان احد اسباب تعاظم دور صدام وزيادة صلاحياته وميله للمركزية ، فالمناضل البسيط الثقافة صلب ويستطيع القتال لكنه لا يتمتع بقدرة على التفكير المعقد واتخاذ القرارات الستراتيجية لان ذلك من مميزات من لديه وعي عميق وثقافة عالية .
وهذا امر طبيعي فعندما يكون العراق معرضا لاشد انواع التأمر خطورة تحتاج لرجال يحمون النظام والتجربة الثورية ويملكون امكانيات الفهم الصحيح لما يجري ويستطيعون المشاركة بشجاعة في رسم صورة ما يجري وما يجب اتخاذه من قرارات لمواجهته ، وعندما يكون عدد من يستطيعون المساهمة في صنع القرار قليلا نظرا لقلة الثقافة والوعي الستراتيجي فالقائد مضطر لزيادة اعتماده على هؤلاء وعلى نفسه وعدم التعويل على الاخرين .
وقد يقول البعض اذن لم وصل لمراكز القيادة اشخاص لا يملكون كل مؤهلات القادة ؟ فالجواب هو ان الديمقراطية والانتخابات توصل اشخاصا ليسوا بالضرورة الاكفأ والاقدر وهذه حقيقة معروفة في العالم وبسببها وصفت الديمقراطية بانها نظام سيء لكنها اقل سوء من الديكتاتورية .
هل هذه ممارسات ديكتاتور مستبد ؟ كلا فالديكتاتور لا يسمح لاحد بمشاركته في اتخاذ القرارات ويبعد كل من يملك رأيا خاصا واجتهادا خاصا في القضايا العامة ، وهو لذلك ابعد ما يكون عن طلب معرفة حالة الناس ورايهم ورغباتهم ولا يقرب من لديه القدرة على فهم ما يجري واعطاء راي ولا يحتاج للانتخابات المحدودة او العامة ، وصدام الشهيد كان حتى اخر لحظة في حياته في الحكم يطلب الرأي ويتشاور ويقرب اصحاب الرأي الشجعان ويدافع عنهم ويختارهم لمواقع متقدمة .
في ضوء ما تقدم كيف نصف النظام البعثي ؟
1- انه نظام المركزية الديمقراطية فلا هو نظام ديمقراطي عادي لان فيه مركزية صارمة خصوصا اثناء الازمات الكبرى ، ولا هو نظام ديكتاتوري استبدادي لانه يقوم على انتخابات مقيدة في الحزب والنقابات والبرلمان واستفتاء على اختيار الرئيس ، من جهة ويعتمد نظام شورى حديث اساسه التشاور واخذ راي كل من لديه خبرة او تجارب اضافة لمجلس قيادة الثورة . والسبب في هذا الخليط هو ما تفرضه ضرورات مرحلة تاريخية لها مؤثراتها والياتها بالاضافة للقوة الهائلة لتقاليد المجتمع وتربية الناس ونوعية الصراعات السياسية ووجود حروب او توترات اقليمية تضع المنطقة باستمرار على حافة الحرب .
واجزم بانه لو كان الحاكم غير البعث وغير صدام الشهيد وواجه العراق ما واجهه لكان ممكنا قيام ديكتاتورية عمياء دموية تنفصل كليا عن الشعب ولا تلتزم باي معيار ديمقراطي او شوروي ، وهذا عبدالكريم قاسم لدينا يقدم مثالا للاغلبية الساحقة من النظم العربية جمهورية وملكية ، فهو لم يواجه انواع التامر التي واجهها البعث لكنه تحول الى ديكتاتور دموي منفصل عن الشعب وبسبب استبداده بدات الصراعات الدموية في العراق .
2- عندما يكون الجميع اسرى تقاليد الاستبداد ونزعة اقصاء الاخر فانت لا يمكنك الا ان تتأثر بتلك البيئة والا ستكون ضحية لها ، طبقا للمقولة الشهيرة كي تستطيع البقاء في عالم الذئاب يجب ان لا تكون حملا .
3- المعيار الاكثر حسما لوجود نزعة ديمقراطية هو تقييم حالة النظم في ظل تحديات الحرب ، فمن يحافظ على نزعته الديمقراطية حتى في ظل اشد انواع الحروب خطورة ويكتفي بتقييدها لا يمكن الا ان يكون ديمقراطيا بطبعه وصدام كان فريدا في ابقاء بعض مظاهر الديمقراطية رغم الحرب ، وما يثبت فرادة صدام ان اشد النظم ديمقراطية وهي امريكا تلجأ لقوانين الطوارئ عندما تتعرض لتهديد وتخوض الحرب وتطبق قواعد الحرب على جنودها واعداءها على حد سواء بعيدا عن مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان لكن صدام لم يعلن حالة الطوارئ رغم وقوع الحرب .
اما اذا تذكرنا ان تهديدات الارهاب الذي ادعت امريكا انها تواجهه اقل بكثير مما تعرض له العراق من تأمر متعدد المصادر وصل الى الحصار الشامل وشن حرب عالمية بدأت في عام 1991 ومازالت مستمرة حتى هذه اللحظة فاننا نرى الميل الديمقراطي واضحا لدى صدام . فالاصل في الحياة هو مواجهة الواقع بما يضمن البقاء لان زوال الوجود يزيل كل مظاهره الفوقية كالنظام السياسي وغيره .
4- العالم اليوم كله يتجه بصورة متزايدة نحو انظمة عسكرية قمعية تسلب الانسان حريته وتجرده حتى من خصوصيته وتتدخل ليس فقط في سلوكه الخارجي كما فعلت الانظمة الاستبدادية والشمولية التقليدية كالشيوعية بل الاخطر انها تتدخل في طريقة تفكيره وتخلق او تكتشف كيفية التأثير المباشر على عقل الانسان وتقرر سلفا ما يجب عليه اختياره من ملبس او اكل وانماط تفكير اخلاقي وسياسي او ترتيب للاولويات الخاصة جدا وليس العامة فقط . انه عصر التحويرات الجينية والتلاعب بخلق الله للانسان والطعام وكل شيء ولهذا فنحن بأزاء اكبر واخطر انظمة التحكم شبه الالي بكافة المخلوقات خصوصا الانسان ولسنا في عصر الديمقراطية كما يتوهم البعض .
5- الفرق بين الاستبداد الغربي المتقدم علميا وتكنولوجيا وبين الاستبدادا العالمثالثي هو في الطريقة وليس في الطبيعة فكلاهما يسيطر على الانسان ولكن الاخطر فيهما هو من يسيطر على الانسان من داخله ويقنعه بانه حر رغم ان كل قراراته العامة والخاصة متاثرة بما اراده من يسيطر على المعرفة والاعلام .
6- ولكن ورغم كل ما وضحناه من حقائق عصرنا فان امة مثل الامة العربية تواجه الفساد والافساد والاستبداد المدعوم من الخارج بقوة عليها كي تنجو من النهاية الحتمية وهي تفتيت الاقطار العربية وزوال الهوية القومية العربية ان تعتمد على الجماهير وتستمد قوتها منها لان مواجهة قوة العدو المتفوق علينا ماديا وتكنولوجيا واقتصاديا تتطلب حشد وتنظيم طاقات الامة وتسخيرها للصمود ومقاومة اعداءها بكفاءة . بدون الديمقراطية المركزية لن ننجو وسوف نهزم لانها توفر الاساس المتين لقناعات شعبية ضخمة بان من يقودها ليس جماعة فاسدة او مستغلة وانما هي طليعة تقودها نحو الخلاص والانقاذ مما تتعرض له ومما خطط كي تتعرض له وهو اخطر مما نواجهه الان بكثير . فالديمقراطية بالنسبة لامة تتعرض للابادة هي احد اهم الاسلحة البالغة الاهمية وهي بهذا المعنى ليست نظاما فقط بل هي شرط من شروط المحافظة على الهوية والوجود .
الديمقراطية الشعبية او المركزية هي مزيج من الاختيار الحر لمن يقود ومنحه صلاحيات القيادة مركزيا لاجل توفير قدرات مرنة على الحسم وخوض معارك المصير ، فلا الديمقراطية التقليدية تصلح لحالة حرب الوجود الحالية لانها تشرذم قوى الامة ولا الديكتاتورية توفر قوة للامة لانها تحرمنا من الاختيار الشعبي الحر لدعم الثوار والمقاومين وهذا من اهم شروط النصر . هذا ماكان عليه نظام البعث .
البداية الحتمية الصحيحة هي الاعتماد على الجماهير وذلك لن يتم الا بالديمقراطية المركزية.
Almukhtar44@gmail.com
21-8-2015
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء