أحدث المواضيع

والان هل صارت الصورة واضحة ؟


 صلاح المختار 

امريكا ترفع وروسيا تكبس
لدينا مثل عراقي يقول (هذا يرفع وذاك يكبس ) وهو مثل اشتق من لعبة كرة الطائرة حيث ان احد اللاعبين يقذف الكرة عاليا فيقفز الاخر من فريقه ليضربها نحو منطقة المنافس ، فهي عملية تعاون بين اللاعبين لضمان مواصلة اللعب حتى فوز احدهما فيها او تعادلهما ،فهل ما يجري الان خصوصا في العراق وسوريا هو عمليات رفع وكبس بين امريكا وروسيا ؟ من شاهد طريقة تعامل جون كيري وزير الخارجية الامريكية مع سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا اثناء المفاوضات حول سوريا وطوال سنوات يدرك جيدا ان ما بينهما غزل صريح - عذري طبعا – فهما يمارسان الهمس واللمس كثيرا ، خصوصا كيري ، ويظهران (ميانة ) وصلة ودية عميقة من خلال عملية امساك اليد كثيرا مع انهما يتفاوضان حول مصير ملايين وحياة الالاف في حلب ، وهي تصرفات غريبة على الدبلوماسية وتقاليدها ولكنها بالنسبة للامريكيين سلوك مألوف لانهم يعتقدون بان تقاليدهم فوق كل تقاليد اخرى !
بعد ما حصل ويحصل من كوارث بشعة هزت بعض العالم في حلب والموصل اصبحت الصورة بالغة الوضوح وهي ان كلا من امريكا وروسيا واسرائيل الشرقية وتوأمها اسرائيل الغربية وقوى اخرى تنفذ خطة معروفة تقوم على تقسيم وتقاسم الاقطار العربية في سايكس بيكو الثانية  ، واحد اساليبها هو ما يسمى (جعل المفاوضات هي الهدف وليس حل المشكلة ) اي سرقة الوقت ، فتتحول المفاوضات الى عملية تستغرق سنوات ، تتغيير فيها المشاريع بعد سنوات وتناقش بحماس مرفق بوعود او على الاقل ايحاءات بقرب الحل الناجح ، واثناء ذلك تكمل عمليات تدمير البشر والحجر كما خطط ، وتفرض حقيقة مؤلمة نفسها وهي ان اي حل حقيقي محض سراب فما دام الهدف هو اطالة المفاوضات وجعلها تستغرق سنوات وربما عقودا طويلة فلا داعي للعمل من اجل حل نهائي .
الغريب ان المثقف العربي المخضرم والذي عايش احداث فلسطين كلها خصوصا منذ بدات اللعبة الاخطر بعد حرب عام 1967 والمسماة (البحث عن حل سلمي للصراع العربي الصهيوني) لم يفهم حتى الان ان المشاريع والمفاوضات بين امريكا وروسيا واوربا والاسرائيليتين الغربية والشرقية والتي تجري منذ سنوات للوصول الى حل لازمات العراق وسوريا وليبيا واليمن وللمشروع النووي الايراني وغيرها ليست اكثر من ادارة ازمة وسرقة وقت وليست مصممة للوصول الى حل فيه ولو شيء يسير من العدل والانصاف  تماما كما حصل للقضية الفلسطينية . وضاع المثقف والسياسي بين متاهات المشاريع وتفسيراتها لكثرتها وتعقيداتها وتكرار الكثير منها ، وهذا بالضبط هو احد الاهداف : ارباك الناس وافقادهم بوصلة الفهم الصائب ، واصابوا اكثرنا بالدوران وفقدان القدرة على التمييز الدقيق حينما اضيفت فلسطينات اخرى فبدلا من استرجاع حقوقنا في فلسطين اصبحنا نواجه فلسطينات اخرى : اغتصاب العراق وسوريا وليبيا واليمن وبخسائر بشرية ومادية اكثر بكثير مما خسرنا في فلسطين الاولى ، وظهور خطر حقيقي وملموس لاغتصاب كافة الاقطار العربية في موجة تدمير شامل وصلت اقطار وستصل لاقطار اخرى لم تصلها بعد ما لم نفهم اهداف اللعبة ونواجهها بوعي عميق وشامل .
هل كان كيري ولافروف  يتغازلان حقا ام انهما كانا يمثلان لايهام العالم خصوصا الضحايا العرب بان بلديهما يقتربان من الاتفاق حول حل لسوريا والعراق وغيرهما ؟ هل كانا يخدعان العرب لاجل ان لايبادر احد منهم للعمل الجدي لانقاذ نفسه والامة  ؟ لننظر في الامر :
العراق اولا واجه كوارث فرض حرب خميني عليه ثم افتعال ازمة الكويت ثم شن العدوان الثلاثيني عليه ثم فرض الحصار غير المسبوق على العراقيين ثم الغزو بعد موت اكثر من ثلاثة ملايين عراقي ما بين عامي 1980 و2003 وما ان اكتمل ذلك حتى جاء دور التدمير الشامل للعراق شعبا وهوية وطنية وقومية ودولة وقيم اخلاقية في اخطر عواصف الاجتثاث الشامل غير المسبوقة ! ولان المخطط يشمل كافة الاقطار العربية – وبدون اي استثناء – جاء دور الاقطار العربية الاخرى بالتدرج واحيانا بالجملة فشمل ليبيا ثم سوريا ثم اليمن ، والبقية في لائحة الانتظار بعد زرع الالغام فيها كي تفجر في الوقت المرسوم ، وهذا ما يجري ويتعاظم بلا توقف في مصر وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا والاردن وقبلهما في السودان ودول الخليج العربي ، ما الهدف الحقيقي ؟ وكيف يجب ان نفهم  هذه  التحولات الكارثية كوسيلة لتجنب تلك الكوارث ومنعها ؟
1-كل الاحداث الاخيرة تؤكد بشكل تام بان البدايات كانت مقدمة لهذه النهايات فعدونا المشترك ليس مرتجل سياسات بل واضع اطول الخطط زمنيا واخطرها تاريخيا وهو امريكا والصهيونية واسرائيل الشرقية ، فمن الطبيعي ان تكون خطواته قائمة على زيادة تفكيك العرب وتدمير لحمتهم وانهاك نفوسهم ودفعهم للاستسلام غير المشروط . ما يجري في سوريا والعراق تبلورت فيه حقيقة دامغة وهي ان امريكا  في العراق ،  وروسيا  في سوريا ،  ومهما اختلفتا فانهما متفقتان على انهاء القومية العربية تارة باستخدام الارهاب الاسلاموي لتدمير المقاومة او اضعافها وتارة اخرى بجعل الفتن الطائفية  والعرقية وسيلة لتحشيد السذج والطائفيين  والانفصاليين .
2- القاسم المشترك بين امريكا وروسيا ، ومهما اختلفت التفاصيل ، هو التلاقي الستراتيجي مع اسرائيل الشرقية في الاقطار العربية وهذا مانراه بكل وضوح خصوصا في العراق وسوريا واليمن وتجاه دول الخليج العربي ، فما دام الهدف الحقيقي هو تدمير الهوية  القومية العربية فان خير اداة لتحقيق هذا الهدف الجوهري هو اسرائيل الشرقيةلانها تملك الادوات المحلية وهي التنظيمات الطائفية التابعة لها ، كما ان لها مصلحة اقدم تاريخيا  واعمق تربويا واقوى نفسيا من مصالح امريكا وروسيا في القضاء على العروبة .لهذا فدعم الصفوية الفارسية كي تحتل وتبيد وتدمر الاقطار العربية ليس الا ثمرة للقاسم المشترك الامريكي الروسي.
3-روسيا تستخدم سوريا مثلما تستخدم اوكرانيا والقرم وسيلة ضغط على امريكا للتراجع عن عزلها واستنزافها وقبول الشراكة معها على قاعدة التعددية في قيادة العالم ، وبما ان امريكا رفضت الشراكة فان وخير وسيلة لقبول امريكا لها كشريك مكافئ هي التوسع الامبريالي الروسي كوسيلة ضغط لاجبار امريكا على ضمها الى نادي القوى الامبريالية وهذا هو التفسير المنطقي الذي جعل روسيا تقاتل في سوريا وتتعاظم علاقتها بأسرائيل الشرقية بدليل انها رفضت الوقوف الى جانب العراق عندما تعرض لمخاطر مميتة وكذلك في ليبيا ، وهذا يؤكد ان روسيا لاتختلف نوعيا  عن امريكا في دوافع سياستها الخارجية .
4-امريكا بما انها مستنزفة اقتصاديا وتعاني من ازمة بنيوية مدمرة وضعتها على حافة انهيار مفاجئ فانها لا تستطيع تحقيق اهدافها الامبريالية بنفسها لهذا لجأت الى استخدام ، او دعم ، دول اخرى تلتقي معها ستراتيجيا لتحقيق اهداف محددة ومنها اسرائيل الشرقية التي تحتضن اقوى واخطر المشاريع التوسعية المعادية للعرب خصوصا لانها تمتلك الارادة الصلبة والادوات البشرية ( نغولها العرب ) والاستعداد للتضحية من اجل تدمير الهوية العربية ، فالموقف الامريكي تجاه التوسع الامبريالي الايراني هو دعمه من اجل تحقيق اهداف مشتركة امريكية وايرانية وهي اشعال الفتن الطائفية المفضية الى تمزيق اللحمة العربية وانهاء العروبة . وهذه الحقيقة تنطبق على اسرائيل الغربية ايضا واكثر من امريكا .
5- ثنائية الموقف الروسي تظهر واضحة في ملاحظة ان روسيا لديها صلات ستراتيجية متميزة مع اسرائيل الغربية وتم الاتفاق المباشر والتفصيلي بين نتنياهو وبوتين حول الخطوات المطلوبة في سوريا قبل التوغل الروسي فيها ، ومن جهة اخرى تعزز التحالف الروسي الايراني في سوريا ايضا في توليفة تبدو ظاهريا متناقضة ولكنها في الواقع منسجمة عندما يتعلق الامر بالموقف من العرب ، وهذه الثنائية تميز ايضا سياسية امريكا فهي الداعم الاهم لاسرائيل الغربية ضد العرب وبنفس الوقت هي مهندس تنصيب نظام الملالي في طهران واسقاط نظام الشاه وتشجيع النظام الجديد على الانخراط في صراعات دموية مع العرب .
وهذه الحقيقة تفسر اسرار قد تبدو غامضة للبعض مثل دعم اسرائيل الشرقية للغزو الامريكي للعراق ووضع قدرات ميليشياتها في العراق تحت تصرف الاحتلال الامريكي من اجل تكريسه وانجاحه . وتوج التلاقي الستراتيجي هذا بتسليم امريكا العراق عندانسحابها منه في عام 2011 الى النظام الايراني وليس الى رجال المخابرات الامريكية في العراق وهم كثر ، في تأكيد حاسم على ان امريكا تريد من النظام الايراني اكمال تدمير العراق تمهيدا لتقسيمه .  
6- اما الاخطر فهو الدعم الامريكي للدورين الروسي والايراني في سوريا ، فما فعله كيري كان تمييع اي حل وتقديم الحجج لروسيا واسرائيل الشرقية للتمادي في تدمير سوريا شعبا وكيانا وهوية ، ولهذا من المستحيل تفسير انقلاب اوباما على مواقفه الرسمية والتي قامت اساسا على الضغط الشديد على دول الاقليم والانظمة العربية من اجل اسقاط نظام بشار لمدة عام كرر فيها اوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلنتون مواقف مثل (حتمية رحيل اسد) وانه (فقد شرعيته) وان (لا مكان له في سوريا المستقبل) ..الخ، في عام 2012 تبنى اوباما الحل السياسي  ورفض الحل العسكري والذي كان يعني اولا وقبل كل شيء بقاء نظام بشار ودعم التوسع الايراني في سوريا وتشجيع حزب الله على التطرف في قتل الشعب السوري !
وفي الوقت الذي كانت روسيا واسرائيل الشرقية تقومان بدعم انصارهما وقواتهما في سوريا وتجلب طهران عشرات الالاف من المرتزقة والميليشيات الطائفية من دول كثيرة كانت امريكا تتراجع عن وعدها الرسمي بتزويد المعارضة السورية ب(اسلحة نوعية) تحسم الصراع ! لقد ورطت امريكا كل من تركيا وانظمة عربية في المطحنة السورية بفرض سياسة عدائية للنظام لكنها فجأة غيرتها وتركت تلك الاطراف في مأزق كبير ! فماذا كانت النتيجة ؟ انحراف ميزان القوى لصالح معسكر روسيا واسرائيل الشرقية ونظام بشار  فعادت الازمة السورية الى مرحلة عدم اليقين والديمومة وانطفاء الضوء في نهاية النفق ! وهذا هو بالضبط المطلوب اي ابقاء نيران الحرب في سوريا مستعرة وقتل اكبر عدد ممكن من الشعب السوري وتهجير الملايين من وطنهم وجلب غرباء ليحلو محلهم وهكذا تتغير الهوية العربية لسوريا وتصبح عبارة عن تجمعات متنافرة من الناس فتنتهي سوريا العروبة .
امريكا ترفع وروسيا تكبس : اليوم وحلب تواجه الابادة للعشرات يوميا وربما المئات وتدمير احياء كاملة وسط ضوضاء امريكية اوربية تقتصر على الاستنكار وترفض اي نوع من انواع الضغط الفعلي لايقاف المجازر البشعة وهو امر تستطيع فعله لو ارادت ، وهو نفس موقفها تجاه كارثة الموصل حيث تجري عملية ابادة منظمة للعراقيين وتهجير شامل للسكان الاصليين العرب ، وهكذا تتأكد الحقيقة التي تتحكم بسير الاحداث وهي ان ما ينفذ هو عمليات التمهيد لتقسيم وتقاسم الاقطار العربية وانهاء الامة العربية . علينا توقع ان تقدم امريكا واوربا دعما محدودا لبعض المعارضة لاجل مواصلة خطة الثرم التدريجي للعرب في معارك لا يراد لها ان تنتهي او تتوقف  وسوف تتراجع قوات النظام في مكان ما لان اللعبة الكارثية  تقتضي ذلك ويستمر ثرم اللحم السوري والعراقي ما لم نقف متحدين وواعين لحقيقة ما يحدث ومواجهته بموقف موحد وصلب .
          14-12-2016

شكرا لك ولمرورك