أحدث المواضيع

الفكر القومي ومحاولات التنغيل 2

صلاح مختار
لنعد الى قواميس اللغة لنرى الجواب : (معنى نغل في مختار الصحاح ن غ ل : نَغِلَ الأديم فسد وبابه طرب فهو نَغِلٌ ومنه قولهم فلان نَغِلٌ إذا كان فاسد النسب والعامة تقول نَغْلٌ ) بهذا المعنى فان التنغيل لغويا هو افساد اصول الشيء فلكي تضمن نجاحك في تدمير او عزل او تحقير احد اثبت انه نغل عندها ينظر اليه في مجتمعاتنا على انه مخلوق فاسد الاصل .وهذا ينطبق على الفكر ولو بدرجة اكثر خطورة فحينما تريد هز الثقة بفكرة شكك باصولها التكوينية مادامت مصدر قوة المؤمنين بها ، او اضف اليها مواقف او مفاهيم تناقض جوهرها فتشوه الصورة الاصل للفكرة وتتحول الى اداة تضليل او ارباك ، والقومية العربية هي الرابط التوحيدي الرئيس الالفي العمر للعرب لانها ومنذ كانوا قبائل وحتى صاروا امة واحدة تجسد هويتهم التي تنتج عنها فكرة اساسية متفق عليها مثل باقي القوميات في العالم وهي حتمية توحد الناس خلف هويتهم ومصالحهم القومية ضد اي عدو خارجي او تهديد اجنبي . 

واذا غابت هذه الفكرة الجوهرية وهي اللحمة التي تشد العرب بعضهم لبعض فان الرابطة القومية تضعف ان لم تزول وتحل محلها روابط تعود لمراحل ما قبل الامة والوطنية كالطائفية والعرقية والدينية والمناطقية والقبلية..الخ . وما ان يتحقق ذلك حتى تتشرذم الامة وتنخفض قوتها الى جزء منها فتسمح بظهور فوضى هلاكة لا حدود لكوارثها تجر جرا الى هزيمتها وتمهد لزوال كيانها الاكبر الحامي لها ، وهنا تكمن المصلحة الجوهرية للقوى المعادية للامة العربية وتظهر القيمة الستراتيجية لدعم القوى التي تقوم بالتشرذم .
فتنغيل الفكر القومي اذا هو الرافعة الاساسية لشرذمة الشعب وهو يقوم على ، ويفضي الى : 
1-اصطناع تناقض بين العروبة والاسلام : العروبة هي الصلة الاقدم تاريخيا والاكثر توحيدا للعرب فهي تجمع العرب كلهم قبل الاسلام ، حينما كانوا وثنيون ومسيحيون ويهود وصابئة ...الخ ، وبعده بغض النظر عن دياناتهم وطوائفهم واصولهم ، وتبلورت صلة عضوية بين العروبة والاسلام تمثلت في مقولة عبقرية للمفكر العبقري ميشيل عفلق ( العروبة جسد روحه الاسلام ) وبناء عليه فهي ثقافة توحد كافة العرب مسلمين وغير مسلمين ، وبما ان الهدف الوسيط للغرب والصهيونية والفرس هو تدمير الرابطة التوحيدية للعرب فان اصطناع تناقض بين العروبة والاسلام هدف مركزي ثابت في ستراتيجية معادية للعرب هدفها النهائي تقسيم الاقطار العربية وانهاء هويتها العربية واقامة كيانات قزمية متناحرة وفقا لصلات ما قبل الامة والوطنية .
وكان ظهور التطرف الاسلاموي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات قمة عمليات اصطناع تناقض بين العروبة والاسلام حيث ان تيارات اسلاموية سنية وشيعية تولت عملية معاداة القومية العربية بتكفيرها واعتبارها تراثا جاهليا وتكفير ومحاربة القوى التي تدعو للوحدة العربية وتتمسك بالقومية العربية ، وكانت الخمينية القوة الرئيسة الاكثر حقدا على العرب واستعدادا لمحاربة قوميتهم ولكن تحت غطاء ديني وطائفي .
وكي يكسب الاسلامويون المعركة مع التيار القومي العربي كان لابد من ازالة ابرز مظاهر صواب نهجه وعظمة عقيدته وهو تمسكه بحقوق العرب ومطامحهم في الوحدة والتحرر ، فظهرت الخمينية وهي تتستر بغطاء تحرير القدس ومناهضة الصهيونية وامريكا وهي اهم مهام وسمات الحركات القومية العربية ، تبني هذه الشعارات كان هدفه ليس فقط شيطنتها بل ايضا تجريد التيار القومي من مصدر دعم الجماهير العربية له بالسطو على اهم شعاراته واهدافه القومية واستخدامها في تدميره . وهكذا تميزت الخمينية بانها دمجت بين تكفير القوميين العرب وبين السطو على اهم اهدافهم وشعاراتهم القومية وهي تحرير فلسطين .اما الاسلامويون السنة فقد قام موقفهم العدائي للتيار القومي على اساس تكفيره ايضا ووجدوا انفسهم في حالة تحالف ستراتيجي مع التشيع الصفوي بصورة تلقائية رغم عمق وحدة التناقضات الطائفية بينهما . 
الغرب والصهونية كانا وراء تعزز قوة التيارات الاسلاموية وتوسعها لانهما وجدا فيها ما يبحثون عنه فهي تستمد قوتها من التخفي خلف الذات الالهية واندفاعاتها متطرفة في عدائها للتيار القومي العربي واكثر من اي تيار اخر نظرا لعمليات غسيل الدماغ التي يتعرض المنتمي لها لكنها بنفس الوقت ، اي التيارات الاسلاموية ، سهلة التشرذم فلا حاجة للكثير من الجهد لتقسيم هذه التيارات لانها تقوم على افكار يمكن تفسيرها باكثر من اتجاه وطريقة ، وهذا هو النبع الاساس للبحر الذي يمكنه اغراق التيارات الاسلاموية فيه بعد تحقيق الاغراض منها ، اي طبيعتها الانقسامية المتتابعة كالمتواليات الهندسية . 
ولو نظرنا الى التيارات الاسلاموية سنرى دليلا على ما نقوله فهي الان عبارة عن تيارات لا تعد ولا تحصى وكل رجل دين يمكنه التحول الى داعية له انصار مما يزيد في تعدد المراكز التي يتجمع فيها الناس ، وكل هذه التعددية الاسلاموية تعجز عن التوحد والتوفيق لان بينها تناقضات عدائية مصدرها غالبا اجتهاد رجل الدين واحيانا النزوع الجامح للتزعم مما يجعل توحيدها مستحيلا وهذا هو المطلوب من قبل الغرب والصهيونية والشوفينية الفارسية خصوصا وان بقاء الانقسامات هذه يسند من قبلها بفتاوى وحجج دينية ، وبسبب البنية التكوينية لها فانها تستمر في شرذمة الناس وعندما تقوم بذلك تنتقل الى مرحلة الاحتضار والموت التنظيمي بقيامها بالتشرذمات الذاتية حتى تصل قلبها فتنحسر او تزول لتمهد لظهور غيرها .
قبل حوالي نصف قرن كان لدينا اربعة تنظيمات اسلاموية رئيسة فقط : الاخوان المسلمون وحزب التحرير في الجانب السني اما في الجانب الشيعي فكان لدينا حزب الدعوة والمرجعية اما الان فلدينا عشرات الاحزاب والكتل السنية وعشرات الاحزاب والتنظيمات الشيعية وهي في حالات صراع بيني وبعضها صراعات دموية لاتنتهي الا بزوال احد الطرفين واخطر ما في هذه التشرذمات انها تأخذ من الجماهير البسيطة وقودا لها . فما الذي جعل اربعة جماعات اسلاموية قبل نصف قرن تصبح الان عشرات الاحزاب المتناحرة حتى الموت ؟ لان المفسر للدين هو البشر الخطاء بطبعه والناقص في جوهره ، وهو ما اوجد المذاهب وحجج الصراعات فيها بينها فالمذاهب وبعكس ما تروجه ليست حقائق الهية وانما هي تصور رجل الدين للدين. 
وهنا تكمن المصلحة الاساسية للغرب والصهيونية في دعم التيارات الاسلاموية فهي من جهة الاكثر قدرة على تقسيم الناس العاديين الى طوائف وتقسيم الطوائف الى تيارات وكتل متناحرة فما ان تبرز وتنتشر هذه التيارات وتتبرقع بالسياسة حتى يلحقها بحتمية لامفر منها التشرذم بين الناس العاديين على اسس طائفية وفئوية ، وهي من جهة ثانية العدو الاشد تطرفا للقومية العربية والقادرة على الحاق اذي شديد بقواها التحررية مع ان القومية العربية هي القوة التوحيدية الاساسية للعرب ، وهي – اي تيارات اسلاموية – من جهة ثالثة قوى معادية للاشتراكية والتحرر الاجتماعي وتحت غطاء ديني زائف ولهذا فان الغرب والصهيونية لا يجدون بديلا افضل منها لمحاربة الاشتراكية وقوى التحرر وهما من يشكل الخطر الرئيس على المصالح الاستعمارية والصهيونية .وهي من جهة رابعة تنظيمات يمكن شرذمتها بسهولة تامة عندما ينتهي دورها ، وما نراه الان عن داعش وغيرها في سوريا والعراق مثلا يقدم لنا دليلا قاطعا وواضحا على امكانية التخلص من هذه التيارات حالما تنهي دورها في تدمير وحدة الشعب بفتن طائفية .
2.افشال تجارب التيار القومي : كي يمكن اضعاف الفكرة القومية وعزل دعاتها يجب عدم السماح بنجاح اي تجربة في الحكم لها ، اما بتلفيق نظام يستخدم الشعارات القومية لتعهيرها وشيطنتها كما فعل حافظ اسد فتعزل الحركة القومية عن الناس ، او باغراقها بمشاكل داخلية او بازمات خارجية تصل حد الحروب من اجل استنزاف الحكم القومي واجباره على سلوك لم يكن اصلا يقبله لكنه حينما يوضع امام تحديات مصيرية يضطر لاتخاذ خطوات رغما عنه تسمح بتخطئته ودفعه لارتكاب خطايا وهنا تبدأ عملية شيطنته ونزع صفة النجاح منه ووضعه تحت غطاء محكم للفشل او الانجازات المقرونة بأخطاء وخطايا تجرده من حسناته وتجبر الناس على الابتعاد عنه او الوقوف ضده .
وواضح ان الهدف هو هز قاعدة الانتماء القومي او اضعافه ان لم يكن ممكنا اجتثاثه وهذا ما لوحظ مثلا في مصر ناصر حيث ان الصراعات مع الخارج – والتي فرضت عليها - طغت على صراع الداخل من اجل التغيير الاجتماعي وتنفيذ خطط التقدم والنهوض ، وكذلك نرى هذه الامر في العراق اثناء حكم البعث حيث زادت الدول المعادية للنظام الوطني خصوصا بعد تأميم النفط وانطلاق عمليات التنمية العملاقة التي وضعت لتحويل العراق الى قوة عظمى اقليميا ومؤثرة دوليا بقدراتها التكنولوجية والعلمية والبشرية وبتوجه قيادة العراق القومي التقدمي ، ولهذا فان اي نظرة تقويمية لتجربتي ناصر والبعث لا يمكنها ابدا اهمال ان السبب الرئيس لما حصل من اخفاقات في تنفيذ بعض برامجهما النهضوية هو عداء الخارج والذي زاد من قوة اعداء الداخل . واذا روجت فكرة ان التجارب القومية قد فشلت –وهو جوهر العمل الاستعماري - فان البديل يكون اما تدميريا بنزوعه التشرذمي في حالة هيمنة الاسلامويين او تخريبيا في حالة تسلم الحكم من قبل قوى تابعة للغرب ومتواطئة مع الكيان الصهيوني او مع اسرائيل الشرقية ، وفي كل هذه الحالات فان الامة لا تنهض بل تدخل نفق التخبط والتشرذم الدوريين .
3-دوامة البحث عن هوية : ان اضعاف التيار القومي يدخل الناس العاديين في دوامة البحث عن الهوية ففي مرحلة هيمنة الفكر القومي كان الانتماء القومي هو الهوية الحضارية للاقطار العربية لذلك لم تكن مشكلة الهوية بارزة ولا مؤثرة لان الجميع كانوا يعرفون انهم عرب الهوية ، ولكن ماذا يحدث حينما تضرب اسس الهوية وتهدم او تكسر ؟ النتيجة المتوقعة هي البحث عن هوية بديلة لان الانسان لا يعيش الا بهوية وهنا نرى الشياطين تظهر واحدا بعد الاخر : واهمها شياطين القطرية والقبلية والطائفية والتطرف الديني والعنصرية والجهوية والفساد والافساد ...الخ ، فتصبح لدينا هويات متخلفة وبسبب تخلفها تنخرط في صراع حياة او موت فيما بينها ، الهويات الفرعية الجديدة تصبح مصدر صراعات بين من كانوا شعبا واحدا حينما كانت رابطة العروبة هي الاصل وهي المسند الهوياتي . 
4- ارباك الوعي الانساني : اثبتت الدراسات العلمية للانسان ان اشغاله باكثر من مشكلة في ان واحد يضعه وسط بيئة تصنع الارباك والارتباك ومن ثم العجز عموما عن تحقيق اختيار موقف مقنع له تماما وهذه الثغرة في القناعة الناتجة عن تعدد مصادر الضغط عليه وهي مشاكل وازمات مختلفة ومتناقضة تزرع او تنمي في داخله ظاهرة التذبذب وعدم الاستقرار على موقف ، مما يسهل تعرضه لتأثير موجات قوية مصطنعة كالانترنيت تعبث بتربيته وقيمه ...الخ ، ولهذا فظهور التحديات المتعددة المصادر والمتباينة القوة المقرونة باوضاع معاشية تزداد تدهورا في ظل مخاطر تكبر يشكل البيئة الطبيعية لفقدان القدرة على الحسم واستقرار الموقف تجاه اي قضية .وعندما يصل الانسان الى هذه المرحلة فانه يصبح عمليا خاضعا لتأثيرات من يصدر المشاكل او يروج الافكار المنحرفة والتي تثير الاختلاف والجدل وتصعب الاختيار . 
وبناء عليه فخلخلة الانتماء القومي واللجوء الى هويات فرعية سابقة للامة والوطنية يبدأ بتحطيم جدران الحصانة الذاتية للانسان ويعرضه لتسلل مفاهيم وممارسات طارئة وغريبة لا يستطيع اكتشاف انها مناقضة لفكره القومي . 
يتبع .
Almukhtar44@gmail.com
4-7-2017
شكرا لك ولمرورك