أحدث المواضيع

هل أنصف الشماع خفايا علي الوردي ــ سلام الشماع



في كتاب جديد عن صاحب (وعاظ السلاطين)
هل أنصف الشماع خفايا علي الوردي؟
د. محمد صاحب سلطان

في مشهد توصيفي لا تخطئ العين الفاحصة دلالته، لكلمات المقدمة التلخيصية التي خطها الشاعر الكبير حميد سعيد للتعريف بكتاب الإعلامي والباحث والكاتب سلام الشماع، التي جاءت أسطرها المنتقاة على الغلاف الأخير لذلك الكتاب المعنون (خفايا من حياة علي الوردي)، وهو الكتاب الرابع في سلسلة الكتب التي أصدرها الشماع عن الوردي ومكانته وعلمه الفياض ودوره في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية لأكثر من خمسة عقود من تاريخ العراق الحديث، فضلاً عن الكتب التي دفعها الشماع إلى الطبع حديثاً.
وتأتي كتابة الأستاذ حميد سعيد، المشار إليها، خلاصة لما يدور في أذهان الكثيرين عن سر علاقة الشماع بالوردي: أهي علاقة الأستاذ بالتلميذ، أم هي علاقة رب عمل بأجيره، أم المريد بالمريد، أم ماذا؟ ومن منهما استفاد من الآخر؟

كان سعيد حاسماً في بيان ما يريد توضيحه، قاطعاً في حكم توصل إليه بحكم معرفته المسبقة بالوردي والشماع.
وتلك لعمري هي الخلاصة فيما نصبو إليه عندما نريد أن نميط اللثام عن دور الصحافة في اكتشاف جواهر الدرر والبحث عن الكنوز المعرفية المخبوءة لدى العلماء والمفكرين الزاهدين في الرأي والاستمالة.
يقول سعيد: قال لي عبد الله : ألا تشاركني الرأي، في أن صاحبك سلام الشماع، كان محظوظاً في علاقته مع الدكتور علي الوردي، اذ أفاد منه علما، واغتنى بتجارب، ما كانت تتاح له، لولا هذه العلاقة؟
ويضيف في جزئية اطلالته التوضيحية قائلاً: كان الوردي هو الاخر، محظوظا في علاقته بسلام الشماع، ولولاها لغاب الكثير من تراث الوردي على صعيدي الفكر والسيرة، وضاعت حقائق بفعل الكذب والادعاء والانتحال، وهي جميعا لم يسلم منها الرجل حيا وميتا.
وبتقديري، ومن خلال قراءة متمعنة، لذلك الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى في بداية العام 2015 عن دار العرب للنشر والتوزيع في عمان بالتعاون مع الدار العربية للعلوم (ناشرون) في بيروت، وجدت أن ما توصل إليه الشاعر حميد سعيد من استقراء يمس كبد الحقيقة، بل يشكل خلاصة الخلاصة لمحتويات ذلك الكتاب بصفحاته المائتان والأربع والعشرون ومن القطع المتوسط، ومحتوياته التي قسمت إلى اثنين وعشرين مبحثاً، قال عنها الشماع في مقدمته إنها شكلت مجموعة مقالات متناثرة في السيرة الوردية، وإنه سار في تأليفه في غير الطريق الذي سار فيه عندما ألّف كتبه السابقة: (من وحي الثمانين) و(علي الوردي.. مجالسه ومعاركه الفكرية) و(الازدواجية المُسقطة)، والأخير كتاب مشترك مع الدكتور حسين سرمك، والأسلوب الذي اعتمده الشماع في كتابه الأخير هو أسلوب تصويري وصفي، بغية تجسيد الوردي وإنجازاته وما ألفه من كتب، أمام القارئ، مركزاً فيه على المعايشة شبه اليومية لهذا الرجل الذي أعطى ولم يأخذ، أو كما وصفه تلميذه الراحل أستاذ الفلسفة في كلية الآداب مدني صالح في إدى مقالاته بأنه كان (عف الأظافر واليدين والأصابع والراحتين والكفين والعقل والضمير واللسان والشفتين والوجدان، كبير النفس بعيد الهمة، يحضر عند الابداع والتجديد والابتكار والبناء الأكاديمي الرصين ويغيب عند الضحالة والتهريج والتخريب، إنه عنترة جامعة بغداد الذي يغني الإبداع ويغيب عند المغانم).
وكتاب الشماع عن الوردي وخفايا حياته، يعد إضافة نوعية في كتب السيرة، لأنه اعتمد ثلاث طرق في الولوج إلى متن الموصوف، أولها المعايشة والمشاركة في الحدث والواقعة المروى عنها جراء معايشته للوردي وتسجيله كل شاردة وواردة، وملاحظة وبيان رأي، لاسيما حواراته ولقاءاته اليومية، والثانية اعتماد الأسلوب التوثيقي لآراء الوردي وأفكاره في الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، وما ورد في كتبه بمختلف المراحل الزمنية ولاسيما كتب (شخصية الفرد العراقي 1952) و(وعاظ السلاطين 1954) و(مهزلة العقل البشري 1955) و(أسطورة الأدب الرفيع 1957) و(الأحلام بين العلم والعقيدة 1959) و(منطق ابن خلدون 1962) و(طبيعة المجتمع العراقي 1965)، وأخيراً كتابه الأثير الذي يعد مرجعاً كبيراً لعلوم الاجتماع والتاريخ والفلسفة والسياسة (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) بأجزائه الستة (الأول 1969، والثاني 1971، والثالث 1972، والرابع 1974، والخامس الذي خصصه لثورة العشرين في العراق وهو في قسمين 1977 و1978)، والسادس خصصه للسنوات الأربع الأول من عمر الدولة العراقية الحديثة، تلاه ملحق تناول فيه قصة الأشراف وابن سعود.
وما قيل عن تلك المؤلفات من آراء نقدية في صالحها أو ضدها، وما تركته من آثار جدلية في الساحة الثقافية والعلمية في العراق والوطن العربي، فضلاً عن إحصائه ومتابعته لردود فعل الوردي أزاءها.
والأسلوب الثالث الذي اعتمده الكاتب سلام الشماع، هو الأسلوب التسجيلي لما كان يقال عن الوردي في حياته وما بعدها، سواء ما كان يطرح في المجالس الأدبية البغدادية التي كان يرتادها أم في تسجيله لأحداث كان أقران الوردي يسردونها للشماع عن الحياة الخفية وغير المعلنة للوردي، وبالأسلوب ذاته التي كانت تروى به مع الأخذ في نظر الاعتبار التدقيق فيما قيل عن طريق التأكد من المعلومة من أكثر من مصدر وشاهد عيان ومشارك، فضلاً عما اختزنه الشماع من الوثائق والقصاصات والمقالات الخاصة التي كان الوردي يوصلها إلى سلام ولا يبخل بها عليه.
لذا يجد القارئ في متون الكتاب ومباحثه ألوان الكتابة الصحفية وأنماطها كلها ذات الطابع الاستقصائي والتنويري فضلاً عن احتوائه على صفحات مجهولة من عوالم الوردي الحياتية والأكاديمية وآرائه غير المنشورة، وردوده الساخرة وحواراته الفكهة مع مريديه ومنتقديه في آن واحد، كما أن الكتاب يتعرض لمواقف عاشها الوردي وعلاقته بأنظمة الحكم المتعاقبة، الملكية منها والجمهورية، وما احتوته من جذب وشد ومنافرة مثلما يتناول بأسلوب سلس ومسهب مدعم بالحجة والواقعة، الكثير مما أثير حول الوردي من شائعات وغموض وألغاز انتابت آراءه ومواقفه، فيما يخص نظرته إلى الدين والسياسة والعلاقة بينهما والتي لخصها الشماع في الكثير من الالتقاطات والتعليقات على الاحداث والمواقف التي جرت والتي نلمس من خلالها مدى قرب الشماع من إحساس الوردي ونظرته إلى المستقبل الذي جعل منه مبلغ همه.
ويستطيع المطلع على الكتاب التعرف عليها بسهولة ويسر من خلال كتابات الوردي وتعليقاته الزاخرة بالتنبؤات والرؤى المستقبلية والتي أوردها الشماع كشواهد ودلالات على عبقرية الوردي وإحساسه بالمستقبل بما في ذلك ما ألفه من كتب في التاريخ والأدب واللغة ومقدرته الفائقة في تسخير تلك الكتابات لخدمة المستقبل.
ناهيك عن استخدام الشماع للعناوين الصحفية المعبرة عن الفكرة وباسلوب شيق وساخر ومثير، مثل (قنبلة الوردي الانتحارية) والتي وصف بها محاضرة الوردي في مبنى أمانة بغداد التي غصت قاعتها بالحاضرين على الرغم من اتساعها والتي تزامنت مع انتهاء حرب الخليج الثانية في العام 1991 وما أعقبها من أحداث في محافظات العراق. وعناوينه الأخر (من منع كتب الوردي؟) و(الوردي وهارون الرشيد) و(بين صدام والوردي) والتي اعترف الشماع في مقدمتها بأنها كانت من أصعب مباحث هذا الكتاب، إذ تختلط فيها الحقائق بالأوهام بيد أن قلة ممن ينظرون إلى الحقائق بصفتها حقائق، أو يستمعون إلى أوهام ولا يقبلون بغيرها ما لم يقدم معها ما يؤيدها من وثائق وأدلة، ولا سيما تغير الموقف من الوردي وحقيقة قصة اعتقاله وهل كان الوردي طائفياً وقصة اعتزال الكتابة وهل كان الوردي مختارا ام مجبراً فيما يكتب، وحادثة حفل تكريمه الذي كلف ابنه الأكبر الدكتور الطبيب الجراح حسان الوردي بحضوره نيابة عنه بعد أن أودعه بيتاً واحداً من شعر أبي فراس الحمداني طلب منه أن يردده نيابة عنه من على المنصة:
أتت وحياض الموت بيني وبينها
                       وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل!
كما كرس الشماع مبحثاً مثيراً آخر عنوانه (العراق رائد الباراسايكولوجي) ذكر فيه كيفية تناول الوردي لهذا العلم الحديث بجرأة وشجاعة غير معهودتين في ذلك الزمان عندما تأسس أول مجلس إدارة لمركز البحوث النفسية الذي كان الوردي عضواً أصيلاً ودائماً فيه فضلاً عن مشاركته في دعم المسيرة العلمية للمركز وحتى وفاته في العام 1995، ناهيك عن دوره في تأسيس جمعية الباراسايكولوجي في العام 1993، فضلاً عن تناوله موضوعة المواهب الفطرية ولغز الحظ، وكيف أن (علم الخارقية) الذي كان الوردي ضليعاً في تفسيره مثلما أبدع في تفسير التخاطر الذهني والقدرة على قراءة أفكار الغير أو التأثير في تفكيرهم.
وجدير بالذكر هنا أن الوردي اجترح وعرّب الكثير من المصطلحات الخاصة بهذا العلم ومنها العائنية (الإصابة بالعين) والخارقية وسواها.
من جهة أخرى سلط الكتاب الضوء على أمور كثيرة أفنى الوردي عمره في مقارعتها ولاسيما (الظلم الاجتماعي) و(الطائفية) حتى أن الكثير من مريديه أو خصومه يرون أن الوردي لم يكن مجرد عالم اجتماع منطو على بيئة مجتمعه المحلي، بل كان يحمل مشروعاً فكرياً وثقافيا جوهره الإنسان ببعده الكوني، لذلك فعل ما لم يستطع الآخرون فعله عندما طرح أسئلة جوهرية وخطرة تتعلق بطبيعة الإنسان وتكوينه ومعتقداته الدينية والفلسفية ومدركاته الحسية ودوافع سلوكه المزدوج، مسلطاً الضوء على قضايا لم يكن بالإمكان مناقشتها، وقتها، كونها تعد جزءاً من التابوهات المقدسة لدى الكثيرين، أحزاباً وجماعات وطوائف، معتبرين تحليلاته وجرأته النقدية محاولة للتقليل من شأن ما يعتقدون بصحته.
وختاماً، بودي أن أشير إلى أن حلاوة الإنجاز السيري الذي أبدع فيه الشماع بسلسلة كتبه ما كانت لتتحقق لولا الخلفية الصحفية المبدعة التي امتاز بها في وسطنا الصحفي منذ انتمائه إلى الجسم الصحفي العراقي منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكلنا نتذكر التحقيقات والاستطلاعات الصحفية التي كان الشماع ينشرها في مجلة ألف باء وصحيفة الجمهورية، مثلما نتذكر جرأة حواراته في المقابلات التي أجراها مع الكثير من أعلام العراق ومفكريه ومنهم الوردي نفسه، وهي التي أسهمت بنحو كبير في بناء ملكته اللغوية والحرفية وحفظت قلمه من الاشتطاط والمبالغة والتهويل...
رحم الله عالم الاجتماع الجليل علي الوردي وبارك الله فيمن جند قلمه لبيان سيرته العطرة.
شكرا لك ولمرورك