أحدث المواضيع

الفكر القومي ومحاولات التنغيل 1


صلاح المختار
من تحليل احداث الوطن العربي خصوصا منذ وصول خميني للحكم يلاحظ ان من بين اهم واخطر اساليب شن الحروب الخفية على الامة العربية كلها هو اسلوب تنغيل الفكر القومي وتعهيره ومحاولة انهاء مرحلة نقاء وصفاء الفكر القومي نتيجة استقراره على قواعد بداهة متفق عليها بين كل القوميين العرب بل كل القوى السياسية ، لكننا نشهد ممارسة اسلوب يبدو كجلد الافعى ناعما لكنه يخفي تحته سم قاتل هو سم اغتيال هويتنا القومية بتشويهها تعهيرا وتنغيلا ، وهو هدف اذا تحقق يضمن ثلاثي الشر الاعظم ( الصهيونية الامريكية والكيان الصهيوني والشوفينية الفارسية ) مواصلة عملية تفكيك الاقطار العربية وتقسيمها وصولا الى محو الهوية العربية وانشاء كيانات مجهرية وقزمية هوياتها سابقة لعصر الامة والوطنية . فكيف تجري هذه العملية ؟ ومن يقوم بها ؟
حتى نهاية الثمانينيات لم تكن هناك خلافات حول معايير واسس الموقف القومي واشتراطاته الاساسية فالقومية العربية ليست سرا مغلقا لا يفهمه الا نفر محدود بل هي هوية لها مقومات واسس تجعل تحديد من هو القومي العربي وماهي واجباته والتزاماته ممكنا وسهلا وبلا تعقيد ، ولكن ما ما يلفت الانتباه هو ما حصل في الثمانينيات بعد وصول خميني للحكم وبروز تيارات ومنظمات عربية تقول انها قومية الانتماء والهوية ومع ذلك اصطفت مع نظام خميني ضد العراق وكان موقف حافظ اسد وقتها يمثل هذا التوجه رسميا وعمليا مضافا اليه انصار اسرائيل الشرقية العرب مثل حزب الله في لبنان ولاءها للطائفة وليس للعروبة اضافة لكتل وافراد اخرين حركتهم دوافع مختلفة لكنها في مجملها لا صلة لها بنقاوة الموقف ولا هي اجتهاد لانه لا اجتهاد في القضايا الجوهرية مثل الهوية القومية . 
وكنتيجة لهذا الانحراف نرى الان من يجاهر بدعم اسرائيل الشرقية ، رغم انها تحارب وتحتل اربعة اقطار عربية وتقوم بعمليات تغيير سكانية وصلت حد تهجير اكثر من 16 مليون عربي من العراق وسوريا وجلب اكثر من اربعة ملايين غير عربي الى العراق فقط ومنح اغلبهم الجنسية العراقية، وتهاجم العرب وتشوه صورتهم وتعلن ليل نهار انها سوف تغزو مكة والمدينة وتقضي على العروبة ! او ان البعض الاخر يدعم الصلح مع اسرائيل الغربية رغم انها مازالت تحتل فلسطين وتتوسع في مستعمراتها وعدوانها على العرب ، ومع ذلك يقول الموالي للصهاينة والفرس انه وطني او انه قومي عربي رغم ان هذين الموقفين ينقضان بشدة الاسس التي قامت عليها القومية والفكر القومي ! 
من هنا من الضروري اجلاء الحقيقة ورؤية ما وراء الانحراف عن اسس وقواعد الانتماء القومي معايير تحديد الانحراف عنها ، ولكي لا ندخل في جدل بيزنطي سوف نستشهد باراء مراجع معروفة في مجال الفكر القومي ، وساطع الحصري يعد من ابرز رواد الفكر القومي وواضعي اسسه ويعرف القومية كما يلي:( العناصر الأساسية في تكوين القومية هي وحدة اللغة ووحدة التاريخ، وما ينتج عن ذلك من مشاركة في المشاعر والمنازع، وفي الآلام والآمال...) فالحصري يؤكد على ان روابط اللغة والتاريخ وما ينتج عنها تؤسس عناصر مشتركة في الالام والامال والاختيارات .ويقول الباحث المصري محمد عمارة (ورسخ في الواقع العربي أن اللغة العربية الواحدة، والعادات والشمائل والتقاليد الموحدة أو المتقاربة، والولاء الموحد للحضارة العربية الشابه والمستنيرة والمزدهرة، هي الوعاء الجديد والانساني الذي تنصهر فيه الجماعات المنحدرة من أصلاب عدة، كي تكون جماعة واحدة قومية متحدة هي الجماعة و القومية العربية.)
وعلى مستوى عالمي قال المفكر الايطالي ماتزينى: (إن القومية هي انتماء جماعة بشرية واحدة لوطن واحد شريطة أن يجمعها تاريخ مشترك ولغة واحدة في أرض هذا الوطن). وأضاف الألماني هيردر وحدة الثقافة النابعة من وحدة اللغة ووحدة مصادرالتأثير الروحى النابعة من الدين ومن التراث الثقافى الواحد في اللغة الواحدة ، ثم وضعت التيارات الاشتراكية أسسًا أخرى للقومية أهمها وحدة التكوين النفسى ووحدة السوق الاقتصادية .
وفى اواخر القرن التاسع عشر تميزت الحركات القومية بأنها تحررية ووحدوية تدعو لوحدة الامم المجزءة في اوربا مثل إيطاليا وألمانيا وبولندا او دول اوربية كانت خاضعة للامبراطورية العثمانية أو القيصرية الروسية أو الامبراطورية النمساوية في شرق ووسط أوروبا ، اما في الوطن العربي فان القومية العربية اقترنت عملية انبعاثها –وليس نشوءها - في مطلع القرن العشرين بنزوع تحرري واضح فقد قامت حركة التحرر العربية اولا على اساس الانفصال عن الامبراطورية العثمانية بعد ان برزت ظاهرة التتريك فكان العربي يحاول المحافظة على هويته القومية عبر الاستقلال عن الامبراطورية العثمانية رغم ان الاسلام يربط بين العرب والاتراك ، وكانت اوربا ، خصوصا بريطانيا وفرنسا ، تشجع هذه التوجهات نكاية بالامبراطورية العثمانية فقدمت الوعود للعرب بدعم استقلالهم وتحقيق الوحدة العربية مقابل التعاون مع اوربا ضد العثمانيين ولكن اوربا ما ان نهارت الامبراطورية العثمانية حتى قسمت الاقطار العربية واستعمرتها وفرضت عليها حدود سايكس بيكو المعروفة بدل تنفيذ وعد دعم تحقيق الوحدة العربية . 
وبناء عليه لم تعد القومية العربية مجرد نضال من اجل وحدة العرب بل صارت حركة نضال واسع ضد الاستعمار الاوربي البريطاني والفرنسي واتسمت حركتها بنزعة تحررية واضحة دون نسيان الاصل في انبعاثها الحديث وهو تحقيق الوحدة العربية كما حققت القوميات الاوربية وحدتها في الفترة الماضية . وهذه الطبيعة تنسجم مع التكوين البشري وحق الامم المستعمرة .
اذا القومية العربية في ضوء ما تقدم هي هوية العرب الحضارية المميزة لهم حضاريا عن بقية الامم نظرا لارتباطهم بوشائج نفسية مشتركة ولغة مشتركة وتقاليد مشتركة ومساحة ارضية متصلة واقتصاد تكاملي وتاريخ مشترك ودين مشترك ،ومن ثم يرتبط العرب بمصالح مشتركة تجعلهم ينظرون الى انفسهم كما ينظر البريطاني لبريطانيا والفرنسي لفرنسا كوطن واحد لكن ما ينقصه هو العودة للوحدة والتكامل الشامل . القومية بهذا المعنى هي حركة تحرر وطني انسانية الطبيعة لان العروبة ليست مفهوما عنصريا بل حضاريا والعربي اصوله العنصرية مختلفة لكنها اندمجت في اطار حضاري ولغوي وثقافي واحد في بيئة عيش مشترك طويل .واهدافها تبلورت في التحرر من الاستعمار وتحقيق الوحدة العربية وتحرير الانسان العربي من الفقر والامية والتخلف وبناء كيان ديمقراطي عصري تعددي ،واللحاق بالعالم المتقدم والاسهام في الحضارة الانسانية .
وفي ضوء ما تقدم فان ابرز بديهيات وقواعد التفكير القومي هي الولاء للامة فالعربي بما انه عربي يجب ان يكون متضامنا مع العربي الاخر في قطر اخر او في قطره كما يتضامن الفرنسي مع الفرنسي والبريطاني مع البريطاني عندما يتعرض بلده للعدوان او الغزو ، فالقومية هنا هي في ان واحد نزوع وطني يتمثل في حب الوطن وهوية مميزة تتمثل في اختلاف العربي عن غيره بلغته وثقافته وسايكولوجيته واهدافه ، وهذه البديهيات كانت وراء وقوف العرب جميعا مع الشعب العربي الفلسطيني ضد غزو فلسطين من قبل الصهيونية ومساندة العرب كلهم للثورة التحررية الجزائرية والدعم الشامل للمقاومة الفلسطينية ، اضافة لخوض اغلب الاقطار العربية الحروب التي وقعت بين اسرائيل الغربية ومصر وسوريا والاردن دعما للاقطار العربية وللحق العربي .
فما الذي يجعل العربي العادي في مراكش مثلا يدعم الفلسطيني ضد العدوان الصهيوني غير الانتماء القومي الواحد ؟ وما الذي جعل العراقي يتطوع في صفوف المقاومة الفلسطينية غير الانتماء العربي الواحد ؟ وما الذي دفع الاف العرب للانخراط في صفوف المقاومة العراقية بعد غزو العراق غير الدفاع عن العراق ؟ 
اذا ثمة بديهية ثابتة في الوعي الجمعي العربي اضافة لكونها احدى اهم قواعد التعامل في عالمنا وهي ان الامم تتميز عن بعضها بسمات خاصة والعالم عبارة عن تعدد اممي تفصل بينه او تربطه مصالح معينة ، فهل يمكن في هذا الاطار تصور فرد منتم لامة ما ان يقوم بدعم امة اخرى تشن حربا على امته او تغزوها بالفعل ؟ نعم يمكن تصور ذلك وحصل مرارا حديثا وماضيا ولكن الامم كلها حددت نوعية هذا العمل وعقابه ، فكل من وقف مع العدو ضد امته انطبق عليه وصف الخائن او العميل وعقوبته غالبا هي الاعدام ، فالالماني الذي تعاون مع الحلفاء ضد المانيا وصف بانه خائن والفرنسي الذي قدم دعما للنازية اعدم عند تحرير فرنسا بالجملة او اعدمته المقاومة الفرنسية قبل التحرير . وفي اثناء السلم فان دعم دولة اخرى ضد الوطن تبقى خيانة عقوبتها قاسية ويحظى الخائن بالاحتقار الكامل ، ونحت في قواميس اللغة وصف جاسوس مثلما نحت وصف خائن لمن تعاون مع العدو او حتى غير العدو وقدم له مساعدة على حساب وطنه .
وكل هذه الاوصاف والاحكام والقوانين ما كان لها ان تظهر لولا وجود امم مختلفة بينها تناقضات وصراعات تفرض على ابناءها دعم اممهم .وهنا يجب ان نوضح مسألة مهمة جدا وهي ان تبرير الخيانة الوطنية بالدين او الطائفة او الاصل العرقي لا يغير من الامر شيئا فما دام الانسان مواطنا في بلده فان اي صلات اخرى لا تعد مبررا لتخفيف الحكم على الخائن وهذا مثبت في قوانين الدول في اوربا كما في امريكا وكما في روسيا والصين واسرائيل الشرقية . نحن بأزاء قاعدة سلوك تدعمها الوطنية والهوية القومية والقوانين والاعراف الاخلاقية وهي انك بصفتك مواطن في دولة ما او منتم لهوية قومية محددة ملزم بالدفاع عن وطنك وامتك ضد اي عدو اجنبي ، وهذه القاعدة وكما نعرف ليست من ابتكاراتنا نحن العرب بل توصلت اليها الانسانية كلها وفي مختلف مراحل التاريخ ، وهذه اهم سمات الانتماء لامة ما .
لننظر الان الى ما يجري ميدانيا لنرى اين يكمن الانحراف الجوهري : انه عملية تنغيل الفكر القومي بصورة مخططة ومدروسة تمهيدا لتعهيره من اجل تحطيم مداميكه الاساسية وتنفير الناس من هويتهم وانتماءهم الوطني ، فكيف تم ذلك ومن وراءه ؟ 
لم يعد هناك شك في ان من بين اهم واخطر الخطط المعادية للعرب خطة تنغيل الفكر القومي العربي ، فما دام هذا الفكر بوصلة الهوية الانسانية فان الضلال والضياع يأتي من غياب هذه البوصلة او تغيير وظيفتها ، فالفكر القومي والتربية القومية المبنية عليه هو البيئة الطبيعية التي تشد العرب بعضهم لبعض وتوفر قاعدة نفسية وفكرية ومصلحية لوحدة انتماءهم وعامل توحيد لخياراتهم كما هو حال كل امة اخرى بناء عليه فان خطوة البداية في تفتيت العرب هي تنغيل فكرهم القومي وتغيير معايير واسس التربية القومية عبر ممارسات شاذة تتناقض وبشكل صارخ مع ابجديات الهوية القومية والالتزام القومي ، فكيف يتم ذلك وما معنى التنغيل هنا ؟
 يتبع.
Almukhtar44@gmail.com
2-7-2017 

ملاحظة : هذا هو الجزء الاول من محاضرتي في ندوة (الفكر القومي العربي تحديات وافاق المستقبل ) التي يقيمها مركز ذر للدراسات والابحاث في باريس يومي 2و3-7-2017 والتي القيت بالنيابة وذلك لاجرائي عملية جراحية .
شكرا لك ولمرورك